مأزق مغلق: ما السبب وراء فشلنا في معالجة مشاكل نعرفها جيداً؟

مأزق مغلق: ما السبب وراء فشلنا في معالجة مشاكل نعرفها جيداً؟

عشنا عقودًا طويلة ونحن نُعيد إنتاج الحديث عن مشكلات مزمنة عرفناها جيدًا، وعشنا تفاصيلها يومًا بعد يوم، وعلى سبيل المثال: نسبة الأمية المرتفعة، البطالة المستشرية، الفقرٌ العابرٌ للأجيال، أطفالٌ الشوارع، تعليمٌ يفتقد للجودة والمنافسة، عمالة الأطفال، تسربٌ من المدارس، انفجارٌ سكاني، تسوّلٌ ممنهج، إدمانٌ المخدرات، واقطاع إداريٌّ يحجب الدماء الجديدة عن مفاصل المؤسسات.
إننا نعرف الأمراض، لكننا لا نُحل شيئًا، والسؤال البسيط المؤلم: لماذا؟
الواضح أنه لا ينقصنا الوعي بالمشكلات، فالتقارير الرسمية، ومراكز الأبحاث، ووسائل الإعلام، جميعها تناولت هذه الأزمات باستفاضة، لكن ما ينقصنا هو “تشخيص سريري” دقيق يقود إلى خطة علاجية علمية، ثم البحث عن القيادات التحويلة وتمكينها في الهرم الإداري لكل مؤسسة، ونترك لها الفرصة لتنفيذ خطتها، التي يجب ألا تغرد خارج السرب وبعيدا عن خطة الدولة.  
المشكلة الأولى أن لدينا انفصالًا كاملًا بين التشخيص والتنفيذ، بين المعلومة والقرار، نعلم مثلا أن التعليم منهار، لكننا نعالج الانهيار بتغييرات شكلية، لا بمحتوى ولا بإعادة بناء فلسفة التعليم، وفي بعض الأجهزة والهيئات والمؤسسات يدير المسئول أحوالها بسياسة يمكن أن نطلق عليها مجازًا “سياسة المعلّم والصبيان”، وفيها تهبط الإدارة إلى مستوى من الجهل والسلبية، وفي هذه السياسة يُدير المسئول الجهة التي يتولاها كما يُدير صاحب محل بقالة أو خضروات متجره اليومي. لا رؤية إستراتيجية، ولا سياسات مكتوبة، ولا خطط تنفيذية واضحة، بل تعتمد الإدارة بالكامل على مزاج “المعلم” اليومي، وانفعالاته، وتقديره الشخصي للمواقف، فيما يٌنفذ “الصبيان” الأوامر بلا نقاش، ولا يملكون تصورًا عن الهدف، ولا الجرأة على طرح الأسئلة. 
وفي هذا النمط، يتم اختزال المؤسسة إلى فرد، وتختنق الكفاءات، ويذوي الإبداع، ويصبح النجاح مجرد صدف شخصية، لا نتيجة منطقية لهيكل إداري فاعل… إنها سياسة تشبه الحياة في زقاق قديم، لا في مجتمع يٌراد له النهضة.
والأمر الثاني، أن الخطط المؤسسية قد لا تُنفّذ، أو يكتمل تنفيذها… لأنها ليست خططًا حقيقية، وكثير مما نطلق عليه “خطط استراتيجية” في أغلب المؤسسات، هو في حقيقته أوراق عرض للاستهلاك السياسي أو الإعلامي، لا ترتبط بمؤشرات أداء (KPIs) دقيقة، ولا تخضع لمراجعة دورية، ولا ترتبط بإطار زمني حقيقي، ثم أنه حين يغيب التقييم، يصبح كل فشل قابلًا للتبرير، وكل تقصير قابلًا للتأجيل.
الأمر الثالث والأخطر، هو من يقود الدفّة، وفي قلب هذه الإشكالية يكمن سبب أكثر عمقًا، أن كثيرًا من المسئولين في مواقعهم لا يملكون الحد الأدنى من الكفاءة القيادية أو الإدارية، ونحن نقابل في المؤسسات من هو بارع في تعطيل القرار أكثر من صناعته، ومن يرى أن وظيفته “إثبات أن الشيء لا يمكن” بدلًا من البحث عن كيفية حل المشكلة.
لقد تحوّل كثير من المسئولين إلى أدوات مقاومة للتغيير، لا دافعين له، وهنا لا نتحدث عن نوايا، بل عن ضعف احترافي حقيقي، ضعف في التخطيط، غياب ثقافة المتابعة، جهل بأبسط أدوات تقييم الأداء، عدم الإيمان بروح الفريق، الخوف من التجديد وتصعيد الكفاءات، ثم تكمن المصيبة الأكبر في النظر إلى النقد البناء على أنه شكوى، فينظر إلى مٌقدمه على أنه العدو الجديد، أو الرجل المتلون الذي يجلس معنا على الموائد، ثم عندما يشير إلى خطأ يقع فيه المسؤول يصبح العدو الجديد، وكأن اتاحة الفرصة لصاحب الفكر والحلول من التقرب للمسئول، هو خطة لإخراسه، وليس للاستفادة منه.
الأمثلة كثيرة… لكن نختار نموذجين، ففي وزارة التربية والتعليم، رغم كثرة المؤتمرات والتغييرات، فإن التعليم لا يزال مأزومًا في فلسفته، وليس فقط في أدواته، وقد رأينا مشروعات تبدأ وتنتهي دون تقييم جاد، فكان “التابلت” نموذجا، والانتقال لنظام التقييم الحديث كان مرتبكًا بلا تدريب كافٍ، وانهارت معه الثقة بين المعلم والطالب وولي الأمر.وفي الإدارة المحلية، فقد تغول الإقطاع الإداري، وكان غياب الكوادر الواعدة والكفاءات المحترفة هو عنوان واضح، وفي أجهزة المدن، والمحليات، والهيئات، حيث يُركَن الكفء على الأرصفة، وتُعاد تدوير وجوه أثبتت فشلها، لا لشيء، إلا لأنهم “مضمونون”!
ثم الإشكالية السرطانية، نجدها في موظف التعقيد، ذلك الحارس الخفي لعجز المؤسسات، حيث لا يقتصر التعطيل على غياب الخطط أو ضعف القيادة، بل يمتد إلى موظفين يمارسون دورًا خفيًا ومعقَّدًا في تقويض أي جهد إصلاحي، عبر ما يمكن تسميته بـ”تعطيل القرار من داخل القرار” إنه الموظف المعقَّد بطبعه، والمركَّب في سلوكه الإداري، الذي يتفنن في إضافة طبقات من المعوقات غير المنصوص عليها، بمجرد أن يصل إلى يده أي قرار يخدم المواطنين.
فإذا صدرت ميزة عامة أو تسهيل من الهيئة المسؤولة، سارع هذا النوع إلى ابتكار اشتراطات جديدة، أو صياغة تفسيرات معرقِلة، أو اشتراط مستندات غير مذكورة في القرار الأصلي، حتى يجهض أثره قبل أن يصل إلى الناس.
أما إذا تعلق الأمر بخدمة حيوية، تجده يماطل تحت ذرائع واهية مثل السيستم عطلان، أو الملف راح للمدير، أو الموافقة لسه تحت الدراسة، دون أي إطار زمني ملزم، وكأن الزمن لا يعني شيئًا في حسابات هؤلاء، إنه ليس مجرد موظف، بل أداة مقاومة صامتة تُمارس أثرًا كبيرًا دون أن تُدرج في دوائر المحاسبة… وهنا مكمن الخطر.
ولا تنتهي الكارثة عند حدود الموظف المعقَّد الذي يضع العراقيل من تلقاء نفسه، بل يجد في بعض المسئولين الكبار حاضنة لتعقيده، بل ومظلة تبرر له وتسنده، وفي مشهد عبثي مكرر، قد يثور هذا المسئول نفسه إذا لجأ المواطن لحلٍّ آخر خارج المسار المعتاد، متصورًا أن في ذلك “مساسًا بسلطته”، لا بحثًا عن مصلحة.
ويزداد المشهد قتامة حين يكون هذا الموظف جزءًا من منظومة “المعلم والصبيان”، حيث لا توجد خطة، ولا مرجعية، بل كل شيء يُدار وفق مزاج المعلم وتواطؤ الصبي. فالمعلم نفسه لا يملك أدوات أو رؤية لإصلاح إهمال الصبي، ولا يجرؤ على مساءلته، وإنما يغض الطرف عن الكسل والتقصير ما دام “الشغل ماشي” على طريقته.
ويحضر هنا – ببلاغة رمزية لا تخفى – مشهد المبدع إسماعيل ياسين في فيلم (حماتي ملاك)، حين دخل مع صبيّه “عوعو” لتغسيل الميت، فأراد صديق المتوفى أن يستبدلهما بحانوتي أكثر خبرة، فصرخ المعلم غاضبًا: ما تعطلناش كده الشغل يسقع في إيدينا، ثم، وقد أصرّ الصديق على إحضار حانوتي آخر، صاح المعلم منتفضًا: “حانوتي تاني؟! حد يقدر يستجري ياخد الشغل مني؟! ليه هفية! وشرفي ده أنا أخليلك الميت ستين حتة!
ثم يدخل المشهد ذروته الكوميدية عندما اختفى الميت من فوق الفراش، فصاح المعلم في صبيّه متهمًا إياه بأكل الميت: إنت كلت المتوفي؟، فيرد الصبي متباكيًا: لا والنبي يا معنمي، فيسأله: أمال إيه الدم إللي على بؤك ده؟ فيجيبه الصبي في ارتباك مضحك: “دي منبى… منبى… بقصد المربى!”
وهكذا يتحول المواطن إلى “الميت الذي أُكِل”، والمسؤول إلى من يدافع عن الموظف آكل المصلحة، ثم ينكرها عليه بدم بارد… ويظل الدم على الفم علامة لا تُمحى… ثم يهدد إما الحل الذي يطرحه الصبي.. أو يمزق حاجة المواطن إلى ستين حتة! 
والخروج من هذا الطريق المغلق لا يحتاج فقط إلى النوايا الطيبة، بل إلى إعادة تأسيس منظومة الإدارة من الجذر، وأولى خطوات الحل أن تضع الدولة يدها مباشرة على ملف اختيار القيادات التنفيذية، من خلال جهة احترافية مستقلة ومحايدة، تُناط بها مهمة فحص ترشيحات المناصب الإدارية والقيادية بعين علمية صارمة، بعيدة عن المجاملات والانطباعات الشخصية، وهذه الجهة يجب ألا تكتفي بالاختيار، بل تتولى التقييم الدوري لأداء المسئولين، وتراقب مدى التزامهم بتنفيذ الخطط الموضوعة لا الخطط التي يبتدعونها من واقع مزاجهم.
وعبر هذه الآلية، تُرسَّخ معايير الكفاءة المهنية، والخبرة التنفيذية، والقدرة على قيادة التغيير، بدلًا من استمرار الاعتماد على مبدأ “الأقدمية الوظيفية” أو “الولاء التنظيمي”، أو سياسة “المعلم والصبيان”، وكل ذلك أثبت فشله في إنتاج أي نهضة حقيقية… فلا نهضة بدون قيادات محترفة… يعرفون الإدارة كما يعرفون معنى الوطن.
نحن في حاجة إلى اعتماد معايير كفاءة واضحة لتولي المناصب القيادية، لا مجرد الأقدمية أو الولاء، وتفعيل خطط حقيقية ترتبط بأرقام ومؤشرات، تخضع لمراجعة ربع سنوية، ثم فصل القرار الإداري عن المزاج، وتدريب المسئولين على علوم الإدارة الحديثة، ثم تشجيع ثقافة الاعتراف بالفشل، لا تغطيته، ومحاسبة من يتسبب فيه، بالإضافة إلى فتح الباب أمام تصعيد الكفاءات الشابة، بضمانات حماية لا بإلقائهم في معارك فساد مؤسسي وحدهم.
إننا في كل مرة نتكلم فيها عن المشكلة دون أن نغيّر آلية اتخاذ القرار، فإننا لا نحل شيئًا، بل نؤجّل الانفجار، والوطن لا يحتاج لمزيد من التشخيص، بل لجرأة في علاجٍ موجِع… لكنه شافٍ.
وما لم يكن القائد طبيبًا لا موظفًا، ومٌصلحًا لا مصلحيًا، فستظل العربة عالقة في الوحل مهما تغيّر شكل الحصان.
هل وصلت الرسالة؟!
أم سيستمر مأتم العزاء مستمرا، لنتلقى المواساة في المشكلات المزمنة التي ماتت.. ولم تٌدفن حتى الآن… ففاحت جثثها النتنة!