لبنان تحت وطأة سلاح الضاحية الجنوبية

لبنان تحت وطأة سلاح الضاحية الجنوبية

في اللحظة التي بدأت فيها ملامح الحلول السياسية تطلّ من خلف الأفق، خرج علينا الشيخ نعيم قاسم الأمين العام لحزب الله بخطاب يراه البعض متوازنا، ويراه فريق آخر أن حزب الله عاد ليكرّس معادلته القديمة بثوبٍ جديد.
وبالرغم من أن الشيخ نعيم قاسم من أصحاب العمائم البيضاء، أي ينتمي إلى السياسة والفكر بعيدا عن العمامة السوداء التي ترى إن الاستشهاد اسمى امانيها إلا أن قاسم يقول باسم الحزب عن السلاح الميليشياوي أنه باقٍ ما بقي الاحتلال، خطاب ظاهره سيادي، لكنه في جوهره ليس إلا تمديدًا لوصاية غير معلنة، تمسك بخيوط الدولة من خارج مؤسساتها، وتحكم باسم “المقاومة” ما لا يُحكم عبر صناديق الاقتراع.
جاءت تصريحات الحزب الأخيرة بلغةٍ تتّسم بالنعومة، لكنها مشروطة، أشبه بصك ضمان مسبق لبقائه كلاعبٍ فوق الدولة، إذ يربط مسألة تسليم السلاح ليس فقط بزوال الاحتلال، بل بمجموعة شروط يُفصّلها وحده، ويحدّد توقيت تحققها دون سواه فالوطن – في هذا المنظور – لا يُدار بوحدة القرار، بل يُقاس بمدى التهديد المعلَن الذي يراه الحزب في أي لحظة مناسبة.
لكن ما هو هذا الاحتلال الذي يتحدث عنه الحزب؟ هل هو نقاط حدودية لم تُرسم بعد؟ أم هو غارات متفرقة تُردُّ عليها بتصريحات نارية لا تغير ميزان القوة؟ الواقع أن تعريف الاحتلال، كما يستخدمه الحزب، لم يعد متعلقًا بالخطر الإسرائيلي بقدر ما تحوّل إلى مظلة سياسية تبقي على السلاح، وتؤجّل ولادة الدولة الكاملة، وتحافظ على الهيكل الموازي الذي بناه الحزب خارج منطق المؤسسات.
الواقع أن حزب الله لم يعُد يتحرك من منطلق مقاومة تقليدية، بل تحوّل إلى لاعب إقليمي، تدور خياراته حول محور يتجاوز حدود لبنان، وتتماهى رؤيته مع حسابات طهران أكثر مما تنبع من مصالح بيروت، فالسلاح لم يعد مجرّد وسيلة دفاع، بل أصبح ركيزة نفوذ، يُستخدم كورقة تفاوض إقليمية، ويُحفظ كعامل توازن داخلي يُعطّل أي مسعى لإعادة بناء القرار الوطني المستقل.
الخطير في الأمر ليس بقاء السلاح فحسب، بل آلية تبريره المستمرة، إذ يتم تصوير التمسك به كضرورة وطنية في ظل “التهديدات”، لكن دون تقديم خطة زمنية واضحة لتسليمه، أو وضع تصور لمرحلة ما بعده، بل الأسوأ أن الحزب يضع نفسه موضع “الضامن” الوحيد لحماية لبنان، متجاوزًا الجيش اللبناني، وكأن مؤسسات الدولة لا تستحق الثقة، ولا تملك الأهلية للقيام بوظيفتها السيادية.
هكذا تُخلق المعادلة المشوهة دولة تُهمَّش لصالح “حركة مقاومة”، وجيش تُعطَّل مهماته لصالح جناحٍ مسلحٍ غير خاضع للرقابة، وحكومة تُستشار فقط حين تقتضي الضرورة الشكلية.
فماذا تبقى من مفهوم الدولة حين تُختصر سيادتها في بيانٍ صادر من الضاحية؟ وحين يصبح الكلام عن تسليم السلاح مرهونًا لا بتوافق داخلي، بل برضا إقليمي لا يُعرف متى يتحقق؟
ثمّة من يرى في خطاب حزب الله الأخير رسالة مزدوجة تطمين للحلفاء المحليين، وتحذير مبطن للخصوم الدوليين، فالحزب يدرك أن هناك ضغوطًا تتصاعد، وأن هناك مَن بدأ يلوّح بإعادة النظر في المعادلة الأمنية جنوب البلاد، وربما بإحياء قرارات دولية تضعه في مواجهة مكشوفة، لذا جاء خطابه ليقول: “نحن مستعدون للنقاش، لكن على طريقتنا”، و”نحن نرحب بالحلول، بشرط أن لا تمس جوهر سلطتنا”.
لكن هذه السلطة ليست بلا ثمن، فكل يوم يُمدَّد فيه عمر السلاح خارج الدولة، يُستنزف ما تبقى من الثقة في إمكانية بناء وطن جامع، وكل تأجيل لتسليمه، بحجة الخطر، يُكرّس مزيدًا من الانقسام، ويؤجل المصالحة الوطنية الشاملة، ويفتح الباب أكثر للتدخلات الخارجية، التي لطالما ادعى الحزب أنه يقاتل ضدها.
إن ما يجري اليوم ليس مجرد خلاف على السلاح، بل هو نزاع على تعريف الدولة نفسها هل هي دولة المؤسسات، أم  دولة الطوائف؟ هل هي كيان قائم على القانون، أم كيان يتعايش مع معادلات القوة خارج الدستور؟ هل نريد دولة بجيش واحد وسلاح واحد؟ أم نرضى أن نظل بلدًا برأسين أحدهما رسمي في قصر بعبدا أو عين التينة، والآخر فعلي في الضاحية؟
حزب الله يصرّ على بقاء السلاح، ويبرر ذلك بخطاب ممانع، لكن الواقع يُشير إلى أنه يصرّ أكثر على بقاء سلطته، وعلى استمرار موقعه كحَكمٍ غير منتخب، يفرض المعادلات ويتجاوز الحدود، مستندًا إلى دعم خارجي وتوازن داخلي هشّ، يختل عند أول محاولة لاستعادة الدولة.
إن لبنان لا يحتاج اليوم إلى “مقاومة جديدة”، بل إلى مقاومة من نوع مختلف مقاومة تُعيد للدولة موقعها، وللدستور هيبته، وللمؤسسات دورها. مقاومة تُحرّر القرار الوطني من أَسْر السلاح، وتعيد الاعتبار إلى فكرة أن السيادة لا تُدار من وراء الستار، ولا من خلف فوهة بندقية.