أزمة في الهيئات والشركات العامة: عندما تتحول الإدارة القانونية إلى خصم بدلاً من شريك!

أزمة في الهيئات والشركات العامة: عندما تتحول الإدارة القانونية إلى خصم بدلاً من شريك!

في جسد المؤسسات العامة والهيئات الحكومية وشركات قطاع الأعمال، تمثّل الإدارة القانونية القلب النابض بالحكمة والاحتراز والتمكين المؤسسي، فهي ليست مجرد قسم معني بالمشورة، بل هي العقل القانوني الذي يُراقب، ويُفسّر، ويُوازن بين المبادئ القانونية ومتطلبات الواقع التنفيذي، سعيًا لتحقيق معادلة دقيقة تتمثل في حماية المال العام دون خنق القرار العام.
وقد حرص المشرّع المصري منذ إصدار القانون رقم 47 لسنة 1973، بشأن الإدارات القانونية بالمؤسسات العامة والهيئات العامة والوحدات التابعة لها، على منح هذه الإدارات قدرًا من الاستقلال الوظيفي، حمايةً لها من ضغوط القرار التنفيذي، وضمانًا لحيادها عند صياغة الفتوى، أو إعداد العقود، أو تمثيل الجهة أمام القضاء، لكن المثير وما لم يتوقعه المشرع أن يتحوّل هذا الاستقلال – في بعض المواقع – إلى عزلة مهنية، وإلى حائط من الفتاوى الاحترازية المشلّة التي لا تستند إلى القانون بقدر ما تستند إلى ثقافة الخوف، أو غياب الكفاءة، أو إرث طويل من التردد المؤسسي.
وهكذا… بدل أن تكون الإدارة القانونية شريكًا في البناء، أضحت – في حالات ليست قليلة – خصمًا داخليًا يُربك القرار ويُعطّل المشروعات، ويُمرر أخطاءً قاتلة في العقود، أو يتخاذل عن حماية الحقوق في ساحات القضاء.
إنها أزمة قلبية صامتة في الجسد الإداري، لا يشعر بها كثيرون، لكن أعراضها تظهر في تأخّر الخدمة، وفي هروب المستثمر، وفي عزوف القرار، وهذا يدفعنا لمناقشة هذه الإشكالية بموضوعية وحياد على النحو التالي:
أولًا: فلسفة وجود الإدارة القانونية داخل المؤسسات العامة:
حين ألزم القانون رقم 47 لسنة 1973 الهيئات والمؤسسات العامة بتأسيس إدارات قانونية داخل بنيتها التنظيمية، لم يكن ذلك استجابة لترف بيروقراطي، بل وُلد هذا الترتيب من إدراك تشريعي عميق بأن القرار الإداري الرشيد لا يمكن أن يُبنى إلا فوق قاعدة قانونية صلبة، فالمشرّع أراد من هذه الإدارات أن تقوم بدورين متكاملين: الأول دور وقائي، يحصّن الجهة من الوقوع في المخالفات أو التعاقدات الخاسرة أو اتخاذ قرارات لا تقوم على الحل العادل مما يثير أصحاب المنفعة والمتأثرين بهذه القرارات وبالتالي يضر بالمؤسسة العامة، والثاني دور تمكيني، يوفّر المسوغات القانونية لتسيير النشاط وتحقيق الأهداف التنموية والإنتاجية والخدمية بأسلوب رشيد يراعي المصلحة العامة.
ولذلك، أُنيط بهذه الإدارات إعداد مشروعات العقود، ووضع ومراجعة اللوائح والأنظمة بما لا يخالف القانون، وتمثيل الجهة قانونيًا أمام الجهات القضائية، بالإضافة إلى إبداء الرأي القانوني في كل ما يُعرض على مجلس الإدارة.
لكن هذا التصور البنّاء لم يصمد طويلًا أمام أعطاب الواقع.
ثانيا: الانزلاق من الاستقلال إلى الانفصال:
رغم أن القانون منح الإدارات القانونية نوعًا من الاستقلال المهني، إلا أن هذا الاستقلال – في بعض المواقع وليس كلها – تم سوء فهمه أو تعمد استغلاله، فبدل أن تُمارَس الوظيفة القانونية باعتبارها وظيفة خادمة للمصلحة العامة، تحوّلت في بعض المؤسسات والشركات العامة إلى منطقة رمادية تتصرف خارج منطق المؤسسات، وتحتكم أحيانًا إلى منطق “النجاة الشخصية” أو “الاحتراز غير المؤسس”.
ونتيجة لذلك، تظهر بعض الأعراض الخطيرة، فنجد أحيانا فتاوى قانونية لا تستند إلى نصوص أو سوابق، بل إلى افتراضات متشائمة، أو رأي تحت مسمى (القانوني) في مذكرات العرض على مجلس الإدارة يحمل تخويفًا لا توجيهًا لحل الأزمة في إطار القانون، وهو ما ينتج عنه تعطيل واضح للقرار التنفيذي بحجة وجود مخاطر محتملة، دون بيان أسسها القانونية، وفي نفس الوقت قد يحدث تمرير لبعض القرارات التي تتعارض مع اللوائح، دون اعتراض أو تحذير كافٍ، بل نجد لوائح لشركات صادرة عن إداراتها القانونية وخاصة في الأنشطة الخدمية تبيح فرض رسوم ومقابل غرامات وتسعير مستفز للمرافق العامة يضرب بعرض الحائط كل القرارات الحكومية الحاكمة التي أصدرتها الدولة دون اعتراض من هذه الإدارات، طالما أن الأمر في النهاية يصب لمصلحة اقتصادية للهيئة أو يخدم وعاء الأرباح السنوية التي توزع على العاملين في الشركات المساهمة المملوكة للدولة.  
ثالثًا: العقود… مواضع الخلل الصامت:
من أخطر ما تمارسه بعض الإدارات القانونية هو الضعف المهني في إعداد أو مراجعة العقود، وفي حالات كثيرة، تبيّن أن عقودًا تم توقيعها مع مستثمرين أو شركاء خارجيين أو غيرهم، تُفقد الهيئة أو الشركة حقوقها المالية أو الإدارية، أو تٌسلم في النهاية رقبة المنتفع والمستهلك إلى حبل المشنقة في يد الشريك أو المستثمر!
ويبدو هذا الخلل أكثر وضوحًا في العقود ذات الطبيعة الاستثمارية أو المشتركة، حيث تميل بعض الإدارات القانونية إلى التوقيع على عقود لا تحمل تعقيدا أو تفصيلا في المسئولية يكون واضحًا للطرف الآخر، أو الالتزام بمدة زمنية لتنفيذ المشروع، إما عن ضعف فني، أو عن ضغوط من مجالس الإدارات أو السلطات الأعلى فوقها، ولم تُواجه بالجرأة المهنية المفترضة.
رابعًا: حين تتراجع الإدارة القانونية عن الدفاع:
دور الإدارات القانونية في تمثيل الجهة أمام القضاء مبدأ أصيل، لكن التطبيق العملي أفرز نماذج لافتة من التخاذل أو الضعف، فهناك قضايا تُرفع ضد الهيئات ولا تُتابَع بالجدية الكافية، أو طعون يَسقط حق الجهة فيها بسبب التأخير أو الإهمال، أو مواقف دفاعية ضعيفة تؤدي إلى أحكام قضائية موجعة تضيع معها حقوق وأصول الدولة، وهذا ليس من الغيب بل إن سجلات إدارة التفتيش الفني على إدارات الشئون القانونية بوزارة العدل مليئة بمئات التحقيقات والتي انتهى كثير منها إلى المحاكم التأديبية.
الأخطر أن هذه الإخفاقات قد تمر أحيانًا دون مساءلة حقيقية، بسبب ضعف الرقابة الداخلية أو عدم قدرة آلية التفتيش الفني المنصوص عليها في لائحة وزارة العدل بسبب نقص الإمكانات وتوفير العدد الكاف من كوادر التفتيش القانوني التي يمكنها تغطية كافة الهيئات والشركات العامة وفروعها على مستوى الجمهورية.
خامسًا: فتاوى الخوف… تصنع الجمود:
تُظهر بعض الإدارات القانونية أداءً يقوم على ما يمكن تسميته بثقافة الخوف القانوني، وقد يظهر ذلك أحيانا في الامتناع عن الإفتاء الواضح والحاسم بالموافقة خشية المساءلة، بالإضافة إلى تسويق احتمالات الخطر دون مقترحات بديلة، أو التمسك بمبدأ عدم اتخاذ قرار تصحيحي جريء كنوع من الأمان الذاتي.
وهنا تصبح الإدارة القانونية خصمًا صامتًا للقرار، لا ترفضه صراحة، لكنها لا تُعطيه سندًا قانونيًا، فتضع صاحب القرار التنفيذي في مأزق قانوني ومعنوي وإداري.
سادسًا: التفتيش الفني… والدور المأمول:
تتبع إدارات الشؤون القانونية في الهيئات والشركات العامة – وفقًا للقانون – إشرافًا فنيًا من وزارة العدل عبر إدارة التفتيش الفني، ورغم الجهود المبذولة والمحمودة من هذا القطاع، إلا أن الأمر  يحتاج لممارسة دورًا ميدانيًا فعالًا بعيدا عن حالات الشكاوى فقط، وقد يكون من الهام توعية المواطنين بهذا الدور الرقابي ومناسبات الاستعانة أو اللجوء إليه، مع ضرورة وجود آلية تقييم معلنة ودورية أو رقابة فنية استباقية، وألا ترتبط ترقيات القانونيين أو تقييماتهم بجودة العمل في العقود أو القضايا فقط، ولكن أيضا بتذليل العقبات القانونية أمام المستهلك أو المنتفع النهائي وأيضا من خلال القانون ودون تجاوزه، وبهذا نضمن دور رقابي يقضي على التراخي، وضعف التأهيل، وتدوير العناصر من غير الكفاءات داخل الجهاز القانوني.
سابعًا: نحو إصلاح حقيقي للإدارات القانونية:
الإصلاح لا يعني الهدم، بل إعادة ضبط الوظيفة القانونية لتكون شريكًا فعليًا في صنع التنمية.
ويمكن اقتراح ما يلي:
1) وضع نظام تقييم دوري لأداء الإدارات القانونية، يرتبط بمدى التفاعل مع الخطط المؤسسية.
2) تعظيم دور وإمكانات إدارة التفتيش الفني ومنحها سلطات قوية للرقابة والتدخل.
3) تدريب القانونيين بالهيئات العامة والجامعات والشركات العامة على المهارات القانونية المتقدمة والمرتبطة بالتنمية الشاملة.
4) فصل وظيفة الرقابة القانونية عن الفتوى التفسيرية داخل بعض الملفات الحساسة، ضمانًا للوضوح.
5) إشراك ممثل قانوني مركزي للوزارة أو الجهاز الأعلى أو من جهة استشارية معتبرة في كل العقود الاستثمارية الكبرى.
6) توعية المواطنين بأهمية تقديم شكواهم للتفتيش الفني بوزارة العدل ضد كل خطأ إداري يكون سببه سوء التفسير أو المعالجة أو الممارسة القانونية.وأخيرا، الإدارة القانونية ليست كيانًا منعزلًا عن نبض المؤسسة، بل هي أحد شرايينها، وحين يتحوّل هذا الشريان إلى مجرى راكد، أو يصبح مصدرًا للتجلّط، فالمؤسسة مهددة بسكتة إدارية في قلبها التنفيذي، وليس المطلوب من القانونيين أن يُجامِلوا القرار، ولكن أن يصيغوا له طريقًا آمنًا دون أن يُغلقوا عليه كل الأبواب.
إن أزمة الإدارات القانونية في بعض الهيئات ليست أزمة قانون… بل أزمة فهم لدور القانون.
ومع كل ما سبق، لا ينبغي أن يُفهم الحديث على أنه تعميم، إذ لا يُنكر عاقل وجود إدارات قانونية وقانونيين مخلصين يؤدون واجبهم بكفاءة وتجرد داخل كثير من الهيئات والشركات العامة، ويستحقون الدعم والتقدير لا التجاهل أو التثبيط.