وفاء طربيه: الوجه الذي يعكس ذاكرة الوطن

وفاء طربيه: الوجه الذي يعكس ذاكرة الوطن

في عالم يمضي بسرعة الضوء، تبقى بعض الوجوه ثابتة كأعمدة الذاكرة، لا تهرم ولا تغيب، بل يشتدّ حضورها كلما اشتدت الحاجة إلى الفن النبيل والتمثيل الصادق. من بين هذه الوجوه، يبرز وجه وفاء طربيه، الذي لا يشبه سواه، بل يشبه الوطن نفسه في صدقه، في عمقه، وفي جمالية انحيازه إلى الإنسان.وفاء طربيه، اسم محفور في تاريخ الدراما اللبنانية والعربية، لا كواحدة من ممثلاتها فحسب، بل كركن أساسي في بنائها وتطورها. بصوتها المليء بالدفء، وبملامحها التي تحمل مساحات من التعبير، استطاعت أن تعبر من الشاشة إلى القلب، وأن تكون جزءًا من الحكايات اليومية للناس، بل كصوتٍ يوازي حكاياتهم وتفاصيلهم.من الشاشة إلى القلبمن خشبة المسرح إلى استوديوهات التلفزيون، ومن الشخصيات الدرامية إلى دبلجة الرسوم المتحركة، حافظت طربيه على أداء رفيع، نظيف، ومدروس. بصوتها المميّز أدّت شخصيات لا تُنسى في أعمال الكرتون، مثل “راي” في جونكر، و”ناريتا” في سانشيرو، و”والدة رانزي” في رانزي المدهشة. دخلت بهذه الأدوار بيوت الأطفال وشكّلت جزءًا من ذاكرتهم العاطفية، تمامًا كما شكّلت أدوارها في الدراما ذاكرة الكبار.ولم يكن صوتها حاضرًا فقط في الرسوم المتحركة، بل امتد أيضًا إلى المسلسلات المدبلجة، لا سيما المكسيكية منها، التي شكّلت في التسعينيات نافذة عاطفية لشرائح واسعة من الجمهور. بصوتها المتزن والمؤثر، أضفت على الشخصيات الأجنبية نكهة محلية وجعلتها أقرب إلى قلوب المشاهدين، فكان أداؤها علامة فارقة في تاريخ الدبلجة العربية، حيث امتزجت العاطفة بالاحتراف، والبساطة بالصدق.ولوفاء طربيه محطّة لا تُنسى في زمن الأبيض والأسود، حين كان البثّ المباشر امتحانًا حيًّا لثقافة الفنان وحضوره. أطلت عبر تلفزيون لبنان في بداياته الأولى، تتكلم الفصحى السليمة بثقة وأناقة، وكانت من القلّة النادرة التي ظلّت وفيّة لهذا المستوى حتى في أزمنة خفَتَ فيها اللغة وتراجعت أصول الأداء. في تلك الحقبة، لم يكن الفن مهنة فقط، بل رسالة. وقدّمت وفاء الشخصيات بلغتها الأم، بالعربية التي بدت على لسانها طبيعية، رشيقة، قريبة، دون تكلّف ولا تصنّع. في زمن لم تكن الكاميرات فيه رحيمة، ولا الأخطاء قابلة للتعديل، أثبتت حضورها الحيّ، على الهواء، بثبات الخشبة وأناقة الأداء. وها هي اليوم، شاهدة على زمن لا يتكرّر، ومثالٌ نادر لا يزال يُحتذى به في عصر التمثيل السريع والعابر.في أعمالها اللبنانية، كانت دائمًا تحمل ذاك الطابع الصادق في الأداء، ذاك الحسّ الداخلي الذي لا يُصنع ولا يُتقمّص، بل ينبع من مكان عميق. جسّدت الأدوار ببساطة المتقنة، ووقفت أمام الكاميرا بلا مبالغة، تتيح للمُشاهد أن يرى الإنسان في الشخصية، لا القناع.كرّمتها قريتها تنّورين عام 2024، في التفاتة دافئة لابنتها الأصيلة التي حملت اسمها عاليًا وأثبتت أن الانتماء الحقيقي يبدأ من الجذور. كما سبق أن نالت عام 2013 جائزة عن مجمل أعمالها من مهرجان بيروت الدولي، وفي عام 2019 كرّمها مهرجان بيروت الدولي لسينما المرأة، تقديرًا لمسيرتها الفنية ومكانتها كإحدى أبرز الوجوه النسائية التي أثرت الفن العربي برؤية ملتزمة وأداء متجدّد.وفاء طربيه ليست فقط من جيل الممثلات المخضرمات، بل من القلائل الذين حافظوا على نوعية ثابتة، وأسلوب رصين، وتواضع أصيل. لم تركض خلف الأضواء، بل صنعتها حيث حلّت، فكانت الوجه الذي يليق بالدراما، والصوت الذي يشبه الوطن حين يروي قصّته بصدق.