رسائل السيسي: أفكار تُكتب بحِبر الفكر

رسائل السيسي: أفكار تُكتب بحِبر الفكر

في كلمته بمناسبة الذكرى الثانية عشرة لثورة الثلاثين من يونيو، وجّه الرئيس عبد الفتاح السيسي خطابًا بالغ الأهمية، لم يقتصر على البعد المحلي والتاريخي للثورة، بل امتد ليعالج قضايا إقليمية ودولية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وسلسلة الأزمات المشتعلة في المنطقة العربية.أكد الرئيس أن السلام في الشرق الأوسط لن يتحقق إلا بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية. وهو موقف يعكس ثوابت السياسة الخارجية المصرية، التي لطالما اعتبرت أن العدالة في القضية الفلسطينية تمثل حجر الزاوية لأي تسوية شاملة، وأن فرض الأمر الواقع أو تجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني لن يفضي إلى سلام حقيقي أو مستدام.تحمل هذه الرسالة ثلاث دلالات رئيسية: أولًا، رفض ضمني لأي مشاريع تسوية غير عادلة، لا سيما تلك التي تتجاهل قرارات الشرعية الدولية. ثانيًا، تأكيد على أن مصر لا تزال فاعلًا رئيسيًا في ملف السلام، خاصة في ظل تقاعس بعض الأطراف أو تماهيها مع أجندات لا تخدم استقرار المنطقة. ثالثًا، تحذير صريح من أن استمرار الاحتلال لن يؤدي إلا إلى مزيد من العنف والمقاومة، وهو ما تؤكده دروس التاريخ الحديث.وقد رسم الخطاب خريطة دقيقة للألم العربي، حين أشار إلى أن المنطقة «تئن تحت نيران الحروب»، من غزة المحاصرة، إلى السودان المنهك بالحرب الأهلية، مرورًا بالصراعات المعقدة في ليبيا وسوريا واليمن والصومال. وهنا، يؤكد الرئيس أن الواقع العربي لم يعد يحتمل المزيد من النزاعات، التي تحوّلت إلى حروب استنزاف بشري ومادي، في ظل غياب إرادة دولية حقيقية لحل تلك الأزمات، ما يجعل الشعوب وحدها تدفع الثمن.وضمن هذا السياق، تتحمّل مصر مسؤولية تاريخية وأخلاقية، وتسعى إلى أن تكون صوت الحكمة والعقل في محيط يغلب عليه الصراع والضجيج. ومن خلال عبارته: «أناشدُ أطراف النزاع، والمجتمع الدولي بمواصلة اتخاذ كل ما يلزم»، وضع الرئيس الجميع أمام مسؤولياتهم السياسية والإنسانية، مؤكدًا أن إنهاء الحروب لا يتم بالشعارات، بل عبر خطوات عملية تحفظ للشعوب أمنها وكرامتها.وهي رسالة تتوجه إلى ثلاث دوائر متداخلة: إلى القوى الدولية الكبرى، بأن الصمت لم يعد مقبولًا والمواقف الرمادية تُطيل أمد الصراعات؛ وإلى أطراف النزاع المحلية والإقليمية، بأن الحلول العسكرية أثبتت فشلها وكانت دائمًا مدمرة؛ وإلى الشعوب العربية، بأن السعي نحو السلام ليس دليل ضعف، بل خيار استراتيجي قائم على المنطق والاستدامة.ومن أبرز الرسائل الرمزية في الخطاب، تصريح الرئيس بأن “السلام لا يُولد بالقصف، ولا يُفرض بالقوة، ولا يتحقق بتطبيع ترفضه الشعوب”. وهي عبارة تختزل رؤية مصر للسلام، وتطرح ثلاث رسائل فرعية: أولاها، رفض سياسات التطبيع المفروضة من أعلى دون سند شعبي، حيث لا شرعية لأي اتفاق لا ينبع من إرادة الداخل. وثانيها، رفض استخدام القوة العسكرية كوسيلة لبناء السلام. وثالثها، دعوة لإعادة تعريف مفهوم السلام، باعتباره نتيجة للعدالة والتوازن والاحترام المتبادل، لا الاستسلام والإملاء.كما شدّد الرئيس على أن استمرار الاحتلال لا يُنتج سلامًا، بل يؤسس لثقافة الانتقام والمقاومة، قائلًا: “كفى عنفًا وقتلًا وتهجيرًا”، في تحذير واضح من مغبة تجاهل جذور الأزمات. فقد أوضح أن الأمن لا يتحقق بجدران الفصل العنصري، ولا بالأسلاك الشائكة، وأن أي سلام لا يعالج جوهر الصراعات، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، لن يدوم. كما أكد أن المقاومة، وإن خفت صوتها مؤقتًا، لن تتوقف طالما بقيت المظالم قائمة.وفي ختام خطابه، استدعى الرئيس تجربة السلام المصري-الإسرائيلي في السبعينيات، التي تمت بوساطة أمريكية، باعتبارها دليلًا على أن السلام ليس مستحيلًا إذا توفرت النوايا الصادقة والإرادة السياسية. وهذا الاستشهاد يخدم أكثر من غرض: إبراز الدور المصري الريادي في تحقيق سلام قائم على الندية والعدل، لا على الإذعان، وتقديم دعوة صريحة لإحياء مفاوضات جادة تُبنى على أسس عادلة تضمن حقوق الشعوب، لا فقط مصالح الأنظمة، وإرسال رسالة ضمنية لأطراف الصراع بأن المفاوضات، متى خلصت النوايا، قادرة على تجاوز أقسى المراحل.يُعدّ هذا الخطاب من ضمن خطابات الرئيس عبد الفتاح السيسي التي اتّسمت بعمقٍ واتزانٍ في تناول الشأن العربي، إذ جمع بين الموقف السياسي الصارم والمبدأ الأخلاقي الثابت، وبين التحليل الواقعي والدعوة إلى التعقّل. لقد أراد الرئيس أن يكون صوت الحكمة في زمنٍ عزّ فيه التعقّل، وموقف العدل في عالمٍ تآكلت فيه المعايير الأخلاقية. أما الرسالة الكبرى التي حملها الخطاب، فكانت: “لا سلام بدون عدالة، ولا استقرار بدون إنصاف، ولا مستقبل بدون احترام إرادة الشعوب”