19 وفاة خلال موسم حصاد العنب في المنوفية.. والإسعاف تخلد ذكريات الراحلين على “سيارات الوداع”

صباحٌ قاتمٌ مرّ على قرية كفر السنابسة التابعة لمركز منوف، حين تبدّل مشوار يوميّ روتيني للفتيات العاملات في جني العنب إلى مأساةٍ كتبت نهاية حياة 18 زهرة وسائقهنّ، وأعادت إلى الأذهان لقب «طريق الموت» الذي يلاحق الطريق الإقليمي منذ افتتاحه.
ففي الساعة السابعة تقريبًا، وبينما كانت سيارة ميكروباص تقلّ الشابّات إلى عملهنّ في منطقة السادات الصناعية، باغتتْها شاحنة نقل ثقيل «تريلا» عند الكيلو 47 أمام قرية مُؤنسة بمركز أشمون، لتتحوّل أجسادهنّ الغضة إلى أرقام في سجلات الوفيات ومشاهد مروّعة في ذاكرة الأهالي.

لحظات الصدمة الأولى
وصل البلاغ إلى غرفة طوارئ هيئة الإسعاف في المنوفية عند السابعة وسبع دقائق، فتوجّهت عشر سيارات إسعاف إلى الموقع خلال أقل من عشر دقائق.

ويقول أحد المسعفين المشاركين: «لم نستعمل أجهزة قياس نبض؛ كان المشهد كافيًا لندرك أن معظم الركّاب فارقوا الحياة في اللحظة نفسها».ويضيف: «توزّعت الجثامين سريعًا على أربعة مستشفيات هي أشمون، قويسنا، الباجور، وسرس الليان، فيما نُقل ثلاثة مصابين إلى العناية المركزة وُصفت حالتان منهما بالحرجة».

داخل المستشفيات، سادت فوضى عارمة، عشرات الآباء والأمهات والأشقاء تدافعوا في الممرّات بحثًا عن بصيص أمل؛ لكن الأنباء القاسية سبقتهم، ولاحقًا قرّرت هيئة الإسعاف خطوة إنسانية غير مسبوقة تدوين اسم كل متوفاة على مقدّمة سيارة الإسعاف التي تنقلها إلى القرية، لتجنّب رحلة التعرف المؤلمة داخل المشارح المكتظّة.

هوية الضحايا وقصص الكفاح
أثبتت تحريات إدارة البحث الجنائي أنّ جميع الفتيات من كفر السنابسة، وتتراوح أعمارهنّ بين 14 و22 عامًا، وبعضهنّ لم ينهِ التعليم الإعدادي، وأخريات انقطعن عن الثانوية العامة لتأمين نفقات الأسر بعد غياب العائل أو تدهور الدخل، ويحصلن على أجر يومي لا يتجاوز 130 جنيهًا، يدّخرنه لسداد أقساط، أو لشراء جهازٍ بسيط قبل زفاف، أو لإعالة أشقّاء صغار.

ومن بين الأسماء التي أشعلت منصّات التواصل الاجتماعي حزنًا ميادة محي، الطالبة الهادئة التي حلمت بأن تصبح معلمة؛ ورويدا خالد، صاحبة الابتسامة الدائمة التي كانت تحضّر أوراق الالتحاق بمعهد فني تمريض؛ وهدير عبد الباسط، أكبر أشقائها الستة، التي اعتادت توزيع راتبها الصغير على مصروف البيت ودروس أختها الأصغر، ولكل اسم حكاية، ولكل حكاية أحلام وأمانٍ وأسرٌ تركها الفقد معلقًا برحلة لم تكتمل.

مطاردة السائق المتهم
بحسب وزارة الداخلية، فرّ سائق الشاحنة فور وقوع التصادم تاركًا المركبة وحمولتها على الإسفلت، وتم تشكيل فريق بحث بالتنسيق مع قطاع الأمن العام، وتم ضبطه لاحقا.

ردود فعل رسمية ومجتمعية
أعلن اللواء إبراهيم أبو ليمون، محافظ المنوفية، الحداد الرسمي لثلاثة أيام، مكلِّفًا السكرتير العام المساعد بالإشراف على مراسم الدفن الجماعي وتوفير سيارات مجهَّزة لنقل الجثامين.

كما قرّر صرف مساعدات عاجلة قدرها خمسون ألف جنيه لأسرة كل متوفاة وعشرة آلاف للمصابين، بالتنسيق مع وزارة التضامن الاجتماعي، التي أوفدت الوزيرة د. مايا مرسي لزيارة القرية وتقديم التعازي والدعم النفسي للأسر.

في الوقت نفسه، طالب نوابٌ بمجلس النواب عن دوائر المنوفية بعقد جلسة طارئة للجنة النقل والمواصلات لبحث أسباب تكرار الحوادث على الطريق الإقليمي، داعين إلى تركيب رادارات جديدة، وتحسين الإضاءة، وتخصيص حارة للشاحنات، فضلًا عن تشديد العقوبات على السائقين المخالفين. وأكدت مصادر بوزارة النقل أنّ خطة صيانة عاجلة ستبدأ الأسبوع المقبل، تشمل إعادة تخطيط الحارات، وتوسعة نقاط التفتيش، وإنشاء مطبات صوتية في المناطق ذات الكثافة المرورية.

جنازات مهيبة وعزاء رسمي
ومع غروب شمس الجمعة، اتشحت كفر السنابسة بالسواد، وخرجت تسع عشرة جنازة تباعًا، حيث استقبلت بعض البيوت نعشين دفعة واحدة، وتعالت أصوات القرآن في شوارع ضيقة تلاصق بيوتًا متواضعة، وترجل رجالٌ ونساء في مواكب صامتة صوب المقابر.







