فنان في زي شيخ: قصص حسن الجب، أشهر “حلاق” في شوارع القاهرة

فنان في زي شيخ: قصص حسن الجب، أشهر “حلاق” في شوارع القاهرة

في حديث شيق ومليء بالتفاصيل، يروي د.عصمت النمر حكاية من زمن فات عن رجل لم يكن مجرد “حلاق”، بل أحد أعمدة الحارة وشاهدا على تقاليد وأصول مهنة كانت تمارس بحب وفن ووقار، إنه الشيخ حسن الجب المزين الأنيق، وشيخ الحلاقين الذي لم تكن زيارته للبيوت مجرد خدمة، بل طقسا من طقوس الاحترام والهيبة في زمن كانت فيه التفاصيل الصغيرة تحمل معاني كبيرة.

الدكتور عصمت النمر

“كان الشيخ حسن الجب أكثر من مجرد حلاق.. كان عنوانا لأناقة الزمن وجلال المهنة، ورمزا لطائفة كانت تحترم وتجل، لا لمجرد ما تقدمه من خدمة، بل لما كانت تحمله من قيم.”

كان محل الشيخ حسن الحلاق في قلب الحي الشعبي نابضا بالحياة، تتدلى على بابه ستارة خرز ملونة تهتز مع نسمات الصباح معلنة بدء يوم جديد من الحلاقة والحديث والضحك، داخل المحل مرايا فخمة تملأ الجدران، وفي المنتصف كرسي حلاقة وحيد، كأنما هو عرش ينتظر سيده.

الشيخ حسن الجب

يضيف النمر:”ما ميز الشيخ حسن عن غيره، انه لم يكن فقط أسلوبه أو محله الأنيق بل كان لقبه “الشيخ”، فبينما كان الحلاقون الآخرون يعرفون بلقب “أسطى”، احتفظ هو بمكانة الشيخ، مكانة تتجاوز المهنة لتلامس هيبة المجتمع.”

لم يكن الشيخ حكرا على علماء الدين آنذاك، بل كان لقبا يمنح لكل من نال احترام مجتمعه، سواء كان فنانا مثل الشيخ سيد درويش، أو حلاقا مثل الشيخ حسن، وحتى الحرفيون الكبار كانوا يلقبون بشيوخ، مثل الشيخ حمامة بائع الخردوات، أو الشيخ سيد البنان صاحب المقهى.عن مظهره، قال د.عصمت: “كان متوسط القامة، دائم الابتسام، يرتدي جبة وقفطان وعمامة، ويضع في قدميه مركوبا أحمر، يلمع بنظافته وفرادته، والمركوب الأحمر لم يكن مجرد حذاء، بل رمزا لهوية المدينة، لبسه محمد علي باشا وحاشيته، وكان يرمز لمكانة الرجل بين أبناء منطقته.”

أما تفاصيل عمله، فقد كان الشيخ حسن يمتلك حمارا نظيفا يركبه كل صباح، ينقله بين بيوت علية القوم في الحي، يحلق لهم ذقونهم، ويهذب شواربهم، ويقص شعرهم داخل بيوتهم، دون أن يضطروا إلى مغادرة عتباتهم، إكراما لمكانتهم. وكان يتقاضى منهم مرتبا ثابتا، بينما يتعامل مع بقية الزبائن في المحل بسعر لا يقل عن خمسة قروش، في حين أن الحلاقين الآخرين كانوا يتقاضون قرشا واحدا أو اثنين.

ويتابع عصمت “كانت عدة الشيخ حسن تحفة في ذاتها، كان يحمل شنطة جلدية كبيرة تسمى (المنفاخ)، بداخلها موس الحلاقة، والمشط، والصابون، والماء الساخن، وحتى طستا نحاسيا لامعا له فتحة نصف دائرية يضعها الزبون على رقبته، كي لا يتسخ وكان صبي الشيخ يمسك مروحة من خوص في الصيف، يهوي بها على الزبائن، وأحيانا يطرد الذباب بمنشة يدوية”وكانت جلسة الحلاقة وقتها طقسا كاملا، يبدأ بتحضير الأدوات وتسخين الماء، ويمر عبر تمريرات الموس الحادة بحذر وأناقة، وينتهي بمنديل معطر على الوجه وكوب شاي إن وجد الوقت.

أما في البيوت، فكان الشيخ حسن يستقبل كـ”ضيف له مقام”، كانت الست الكبيرة تشرف بنفسها على تحضير الفطور بعد صلاة الفجر، وتتنوع الأصناف بين الفطير بالسمن البلدي، والبيض، والفول، والمربى بأنواعها: المشمش، النارنج، البرتقال. وكان يقرأ جزء من القرآن بصوت “الفقي”، الذي يخصص له مكان في كل بيت، ويعرف أي بيت فطره في ذلك اليوم.

ويضحك الدكتور عصمت قائلا:”الناس كانت تعرف قيمة الحمار، فقد كان وسيلة النقل الأولى، مثل التاكسي اليوم. وكان هناك أنواع حمار الركوب، حمار السباخ، حمار الأجرة، والشيخ حسن كان له حمار ملاكي، عليه بردعة نظيفة صنعت خصيصا في شارع تحت الربع، حيث كان يحاك فيها السرج والخياطة بدقة لركوب المزين.”ويختم النمر كلامه: “من كان يظن أن وراء “كرسي الحلاقة” قصة بهذا الحجم؟ الشيخ حسن الجب لم يكن مجرد مزين.. كان شيخا في هيئة فنان، ومصلحا في ثوب صنايعي، ورمزا لزمن كانت فيه الحرفة تحترم، والرجل يقاس بحسن أدبه وبصمته ولباقته، قبل مهارته.