“حامي الشجاعة”… السيرة الكاملة للمعلم فهمى الفيشاوى

كل ركن في الحسين له سيرة، وكل مقهى فيه يشبه شاهد قبر على زمن جميل مضى، هكذا بدأ الدكتور عصمت النمر حديثه عن قهوة الفيشاوي العتيقة، يحكي عن المعلم فهمي الفيشاوي، الذي لم يكن مجرد “فتوة” كما صوره البعض، بل كان على حد وصفه، “كبير الحسين، وجدع زمان، ورمزًا لرجولة اختفت بالتدريج من حياتنا”.
قال الدكتور عصمت النمر: “هناك مجلة اسمها “بناء الوطن” كتبت ذات مرة عن الفتونة في مصر، وذكرت أن أشهر فتوة في منطقة الحسين كان المعلم فهمي الفيشاوي، ولم ينل مكانته بالكلام، بل بخناقات وسنوات طويلة من الصدام مع رجل يدعى مهدي العجمي، وكان فتوة ضخم الجثة، لا يرد له أمر، ولا يسأل عن ظلم”.
روى أن العجمي أسرف في البطش حتى فاض الكيل بأهل الحي، وكان لا بد من وقفة، فكانت وقفة الفيشاوي، خاض معارك عديدة، وواجه العدوان بصبر وذكاء، ومع الوقت كسب ثقة الناس، وبعدما سافر مهدي العجمي إلى الإسكندرية ولم يعد، أصبح الفيشاوي هو الكبير.. سيد المكان.لكن قصة المعلم فهمي لم تكن فقط في قوته أو مواجهاته، بل في إرثه الأكبر: قهوة الفيشاوي.يضيف الدكتور عصمت النمر: “إذا أردت أن ترى حي الحسين على حقيقته، فابدأ من قهوة الفيشاوي، ليست مجرد مكان يقدم فيه الشاي، بل وثيقة حية منقوش فيها تاريخ القاهرة القديمة”.

بدأت القصة بكشك صغير أقامه فهمي الفيشاوي عام 1797، ثم حصل على قطعة أرض من إحدى الأميرات في الدولة عام 1763، ليحصل بعد ذلك على أول ترخيص رسمي للقهوة عام 1798، ومنذ ذلك الحين بدأت الحكاية التي لا تنتهي.يتابع الدكتور عصمت: “في عهد فهمي، وصلت مساحة القهوة إلى أكثر من 900 متر، مقسمة إلى ثلاث غرف، لكل غرفة طابعها وروادها، غرفة البسفور كانت مخصصة للأعيان والملك، مزينة بالأبنوس والفضة، وغرفة التحفة كانت ملتقى الأدباء والفنانين، أما غرفة القافية فكانت ساحة نزال شعري في رمضان، حيث كانت تدور المعارك الشعرية بين أبناء الأحياء، وكل منهم يدافع عن منطقته بالقوافي والذكاء”.كانت القهوة، كما وصفها مليئة بالإيوانات على الجانبين، يحمل كل منها اسم أديب أو فنان كبير: “نجيب محفوظ، حافظ إبراهيم، أحمد رامي، أما الأثاث فكان جزءًا من السردية البصرية: دكك خشبية من أوائل القرن العشرين، أرابيسك محفور، ترابيزات من الرخام، وصوان نحاسية تلمع وكأنها تروي قصة”.قال عن الزبائن: “منهم جمال الدين الأفغاني، عمر مكرم، نجيب محفوظ، محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، بل وحتى المخرج العالمي سيسيل ديميل، جلس هنا سبعة عشر يوما في الستينات أثناء تصويره فيلم (وادي الملوك)، والمخرج إليا كازان زارها أيضًا عام 1990”.

ثم أضاف بأسى: “في عام 1961، كانت توسعة ميدان الحسين ضربة قاسية للقهوة، فقد أخذت الحكومة جزءًا كبيرًا منها، وتقلصت المساحة من 400 متر إلى 150 مترًا فقط، لم يحتمل صاحب القهوة الصدمة، وأصيب بجلطة ومات، قال أولاده إن الحزن كسر قلبه”.ورغم الهدم والتغييرات، بقيت القهوة صامدة، تحافظ على ما تبقى من ملامحها، قال الدكتور عصمت: “لم تستطع أي قهوة في القاهرة أن تأخذ مكان الفيشاوي، حتى القهاوي المجاورة تبدو خالية، بينما الفيشاوي دوما مزدحمة، لا تجد فيها كرسيًا فارغًا، للشاي الأخضر هنا طعم آخر، وأنا شخصيًا أحب زيارتها فجرًا، حين تكون شبه ساكنة، لا تسمع فيها إلا همسات التاريخ”.”الناس تظن أن الفيشاوي مجرد قهوة في قلب القاهرة.. ولكنها فيها القانون والعدالة، فيها الفن والأدب، وفيها طيف رجل اسمه فهمي.. كبير الحسين”.