ثلاث مناسبات للاحتفال بالنجاح.. من الذي خسر؟

وفقًا لتقييم استخباراتي أمريكي مُبكر، أعدته وكالة استخبارات الدفاع، الذراع الاستخباراتية للبنتاجون، يستند إلى تقييم لأضرار المعركة، أجرته القيادة المركزية الأمريكية في أعقاب ضربات واشنطن، لم تدمر الضربات العسكرية الأمريكية على ثلاث منشآت نووية إيرانية نهاية الأسبوع الماضي، المكونات الأساسية للبرنامج النووي للبلاد، ومن المرجح أنها عطلت تشغيله لعدة أشهر فقط.. ولا يزال تحليل الأضرار التي لحقت بالمواقع، وتأثير الضربات على طموحات إيران النووية جاريًا، وقد يتغير مع توافر المزيد من المعلومات الاستخباراتية.. إلا أن النتائج الأولية تتعارض مع ادعاءات الرئيس دونالد ترامب المتكررة، بأن الضربات (دمرت تمامًا) منشآت التخصيب النووي الإيرانية.. كما صرّح وزير الدفاع، بيت هيجسيث، يوم الأحد الماضي، بأن طموحات إيران النووية (قد قُضي عليها)، مع أن التقييم يشير إلى أن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب لم يُدمَّر، وأن أجهزة الطرد المركزي (سليمة) إلى حد كبير، وقد نُقل اليورانيوم المخصب من المواقع قبل الضربات الأمريكية.. (لذا، فإن تقييم وكالة استخبارات الدفاع، هو أن الولايات المتحدة أرجعت البرنامج النووي الإيراني إلى الوراء ربما بضعة أشهر، على الأكثر).. واعترف البيت الأبيض بوجود هذا التقييم، لكنه قال إنه لا يتفق معه!!.
وخرجت كارولين ليفيت، السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض، لشبكة CNNلتقول، إن (هذا التقييم المزعوم خاطئ تمامًا، وقد صُنِّف على أنه “سري للغاية”، ومع مع ذلك، فإنه سُرِّب إلى CNN من قِبل شخص مجهول، ضعيف المستوى، في مجتمع الاستخبارات،. إن تسريب هذا التقييم المزعوم، محاولة واضحة لتشويه سمعة الرئيس ترامب، وتشويه سمعة الطيارين المقاتلين الشجعان الذين نفذوا مهمةً مُحكمة التنفيذ، للقضاء على البرنامج النووي الإيراني.. يعلم الجميع ما يحدث عندما تُسقط أربع عشرة قنبلة، وزن كل منها ثلاثين ألف رطل، على أهدافها بدقة: تدميرٌ كامل).. وردّ ترامب، الموجود في هولندا لحضور قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) هذا الأسبوع، على التقرير في منشور على موقع (تروث سوشيال).. وكتب بأحرف كبيرة، (إحدى أنجح الضربات العسكرية في التاريخ)، مضيفًا (المواقع النووية في إيران دُمِّرت بالكامل!).. وقال الجيش الأمريكي، إن العملية جرت كما هو مخطط لها، وإنها حققت (نجاحًا باهرًا)!!.
ونعتقد، أنه لا يزال من المبكر جدًا، أن تُكوّن الولايات المتحدة صورةً شاملةً عن تأثير الضربات، ولم يصف أيٌّ من المصادر كيفية مقارنة تقييم وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية بآراء وكالات استخباراتية أخرى.. وتواصل الولايات المتحدة جمع المعلومات الاستخباراتية، بما في ذلك من داخل إيران، في إطار تقييمها للأضرار، خصوصًا وأن إسرائيل شنت غارات على المنشآت النووية الإيرانية لأيام، قبل العملية العسكرية الأمريكية، لكنها زعمت حاجتها إلى قنابل أمريكية خارقة للتحصينات، زنة كل منها ثلاثين ألف رطل، لإنجاز المهمة.. وبينما أسقطت قاذفات B2 الأمريكية أكثر من اثنتي عشرة قنبلة على منشأتين نوويتين، هما منشأة فوردو لتخصيب الوقود ومجمع نطنز لتخصيب اليورانيوم، إلا أن هذه القنابل لم تُدمّر أجهزة الطرد المركزي واليورانيوم عالي التخصيب في الموقعين بشكل كامل.. وبدلًا من ذلك، اقتصرت الأضرار التي لحقت بالمواقع الثلاثة ـ فوردو ونطنز وأصفهان ـ إلى حد كبير، على المنشآت فوق الأرض، والتي تضررت بشدة.. ويشمل ذلك البنية التحتية للطاقة في المواقع وبعض المنشآت فوق الأرض، المستخدمة لتحويل اليورانيوم إلى معدن لصنع القنابل.
كما وجد التقييم الإسرائيلي لتأثير الضربات الأمريكية، أن الأضرار التي لحقت بفوردو أقل من المتوقع.، ومع ذلك، يعتقد المسئولون الإسرائيليون، أن العمل العسكري الأمريكي والإسرائيلي المشترك على المواقع النووية الإيرانية، قد أعاق برنامج طهران النووي لعامين، بافتراض قدرتهم على إعادة بنائه دون عوائق، وهو ما لن تسمح به إسرائيل.، إلا أن إسرائيل كانت قد صرحت علنًا قبل العملية العسكرية الأمريكية، بأن البرنامج النووي الإيراني قد أُعيق لعامين.
ويصر هيجسيث على رأيه قائلًا، (بناءً على كل ما رأيناه ـ وقد رأيته أنا شخصيًا ـ فإن حملة القصف التي شنّناها، قضت على قدرة إيران على إنتاج أسلحة نووية.. لقد أصابت قنابلنا الضخمة المكان الصحيح تمامًا في كل هدف، ونجحت في ذلك تمامًا.. وقع تلك القنابل مدفون تحت أنقاض جبل من الأنقاض في إيران؛ لذا فإن أي شخص يدّعي أن القنابل لم تكن مدمرة، إنما يحاول تقويض الرئيس ونجاح المهمة).. ووجدد ترامب، أمس الثلاثاء، اعتقاده بأن الأضرار الناجمة عن الضربات كانت كبيرة، ويعتقد أنه دُمّرَ بالكامل، (أصاب الطيارون أهدافهم.. دُمّرت تلك الأهداف، ويجب أن يُنسب الفضل للطيارين).. وعندما سُئل عن إمكانية إعادة بناء إيران لبرنامجها النووي، أجاب، (هذا المكان تحت الصخر.. هذا المكان مُدمر).
وفي حين كان ترامب وهيجسيث متفائلين بشأن نجاح الضربات، خرج رئيس هيئة الأركان المشتركة، دان كين، يوم الأحد الماضي، ليحبط تفاؤلهما بقوله، إنه في حين أن تقييم الأضرار لا يزال مستمرًا، فمن (المبكر للغاية) التعليق على ما إذا كانت إيران لا تزال تحتفظ ببعض القدرات النووية.. ورفض النائب الجمهوري، مايكل ماكول، الرئيس الفخري للجنة الشئون الخارجية في مجلس النواب، تكرار ادعاءات ترامب، بأن البرنامج الإيراني قد (تم القضاء عليه).. قال ماكول، في إشارة إلى الخطط العسكرية الأمريكية لضرب المنشآت النووية الإيرانية، (لقد أُطلعتُ على هذه الخطة سابقًا، ولم يكن القصد منها تدمير المنشآت النووية بالكامل، بل إحداث أضرار جسيمة، لكن ما عُرف عنها، أنها انتكاسة مؤقتة لإيران).
واتفق جيفري لويس، خبير الأسلحة والأستاذ في معهد ميدلبري للدراسات الدولية، الذي راجع عن كثب صور الأقمار الصناعية التجارية لمواقع الضربات، مع التقييم القائل، بأن الهجمات لا يبدو أنها أنهت البرنامج النووي الإيراني.. وفي إشارة إلى وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، الذي أعلنه ترامب يوم الاثنين الماضي، قال جيفري، (جاء وقف إطلاق النار، دون أن تتمكن إسرائيل أو الولايات المتحدة من تدمير العديد من المنشآت النووية الرئيسية تحت الأرض، بما في ذلك بالقرب من نطنز وأصفهان وبارشين)، والأخير، مجمع نووي منفصل يقع بالقرب من طهران، (ويمكن أن تشكل هذه المرافق الأساس لإعادة بناء البرنامج النووي الإيراني بسرعة).
وفي وقت سابق من يوم الثلاثاء، تم إلغاء الجلسات السرية، التي كان من المقرر أن تعقد في مجلس النواب ومجلس الشيوخ بشأن العملية.. ليقول النائب الديمقراطي، بات رايان، إن (ترامب ألغى إحاطة سرية في مجلس النواب بشأن الضربات الإيرانية دون أي تفسير.. السبب الحقيقي؟.. يزعم أنه دمر “جميع المنشآت والقدرات النووية”، ويعلم فريقه أنهم لا يستطيعون إثبات هراءه وتهديداته)، خصوصًا وأنه كانت هناك تساؤلات منذ فترة طويلة، حول ما إذا كانت القنابل الأمريكية الخارقة للتحصينات الضخمة، قادرة على تدمير المواقع النووية الإيرانية المحصنة للغاية، والتي تقع في أعماق الأرض، وبالذات في فوردو وأصفهان، أكبر مجمع للأبحاث النووية في إيران.. وقد ضربت الولايات المتحدة أصفهان بصواريخ (توماهوك)، أُطلقت من غواصة بدلًا من ضربه بقنبلة خارقة للتحصينات.. ويرجع ذلك إلى إدراك واشنطن، أن القنبلة لن تخترق على الأرجح الطبقات السفلى من أصفهان بنجاح، وهي أعمق من فوردو.. ويعتقد المسئولون الأمريكيون، أن إيران تحتفظ أيضًا بمنشآت نووية سرية لم تستهدفها الضربة وتظل عاملة حتى الآن.
●●●
كان على ترامب تقديم تبرير لمقامرته الاستراتيجية، بإصدار أمر بشن غارة جوية أمريكية على ثلاثة مواقع نووية إيرانية، فأعلن الاثنين الماضي، أن (الحرب التي استمرت إثنتا عشر يومًا) بين إسرائيل وإيران، ستنتهي بوقف إطلاق النار ـ رغم أنه، وحتى كتابة هذه السطور، لم يصدر بيان رسمس إيراني بذلك ـ نشر ترامب على موقعه للتواصل الاجتماعي، (اتفقت إسرائيل وإيران بشكل كامل على وقف إطلاق نار شامل وكامل).. بينما لم يصدر أي تعليق فوري من أيٍّ من البلدين بشأن وقف إطلاق النار، ولم تتضح بنود الاتفاق المعلن.. وأعاد البيت الأبيض نشر إعلان ترامب، مع صورة للرئيس وهو يحمل قبعة حمراء كتب عليها (ترامب كان على حق في كل شيء) بأحرف كبيرة.
نعم، سيكون وقف إطلاق النار خبرًا سارًا للمنطقة والعالم.. لكن الوضع في الشرق الأوسط لا يزال بعيدًا عن الاستقرار، وكان من المستحيل التنبؤ بكيفية تأثر الديناميكيات طويلة المدى.. لا شك أن القصف الإسرائيلي والأمريكي لإيران قد أبطأ قدرتها على تخصيب المواد النووية، ولكنه ربما عزّز أيضًا عزم طهران على المضي قدمًا نحو صنع قنبلة نووية.. ولم يتردد ترامب في التلميح إلى استحقاقه جائزة نوبل للسلام، بل ذهب إلى حد إطلاق اسم (حرب الإثني عشر يومًا) على الصراع بين إسرائيل وإيران، وهو اسمٌ بدا وكأنه يُشير إلى (حرب الأيام الستة) عام 1967، التي حاربت فيها إسرائيل مجموعةً من الدول العربية، منها مصر والأردن وسوريا.. وقال ترامب، (هذه حرب كان من الممكن أن تستمر لسنوات، وتدمر الشرق الأوسط بأكمله، لكنها لم تفعل ذلك، ولن تفعله أبدًا!).
ومع ذلك، تصر إدارة ترامب على تخلي إيران عن برنامجها لتخصيب اليورانيوم لاستخدامه المحتمل في الأسلحة النووية، كشرطٍ لأي سلام دائم.. وبينما مثّل قصف منشآت فوردو ونطنز وأصفهان استعراضًا قويًا للقوة، ظلّ من غير المؤكد حجم المواد النووية التي لا تزال إيران تمتلكها وطموحاتها المستقبلية.. وقال نائب الرئيس الأمريكي، جيه دي فانس، مع الإعلان عن وقف إطلاق النار، إن العالم سوف ينظر إلى الحرب بين إسرائيل وإيران ـ والقصف الأميركي للمنشآت النووية الإيرانية ـ باعتبارها (لحظة إعادة ضبط مهمة للمنطقة بأكملها).. ثم قال، إن إدارة ترامب تأمل أن يكون الإيرانيون قد تعلموا درسًا مهمًا: إذا أرادوا بناء سلاح نووي في المستقبل، (فسيضطرون إلى التعامل مع جيش أمريكي قوي للغاية مرة أخرى).. بينما نشرت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض، كارولين ليفيت، على موقع التواصل الاجتماعي X أن ترامب (حقق ما لم يتخيله أي رئيس آخر في التاريخ.. القضاء على البرنامج النووي للنظام الإيراني، ووقف إطلاق النار غير المسبوق بين إسرائيل وإيران).
جاء ذلك، بالتزامن مع إعلان إيران عن احتفال رسمي في ساحة الثورة، (بمناسبة انتصار الدولة الإيرانية على أعدائها).. وفي نفس التوقيت بالظبط، أعلنت إسرائيل عن احتفالها بالنصر أيضًا، في ميدان رابين وسط تل أبيب!..
وحتى أمريكا، على لسان ترامب، تتعامل مع الموقف على إنه انتصار سياسي لواشنطن.. فمن الذي انتصر فعلًا وحقق أهدافه؟.
بداية، فإن الحرب ـ أي حرب ـ لابد لمن انتصر فيها، أن يكون حقق الأهداف التي دخل بها الحرب، أو حقق معظمها على الأقل.. إسرائيل، التي بدأت الإعتداء المباشر على إيران، دخلتها بهدف مُعلن، القضاء على البرنامج النووي الإيراني، وتصفية كامل العلماء النووين الإيرانيين، وإسقاط نظام الخامنئي، وتدمير قدرات الدفاع والهجوم الصاروخي لدى الدولة الإيرانية، فماذا تحقق من هذه الأهداف؟.. لا شيء.. اسرائيل هاجمت إيران ودمرت أهداف كثيرة على الأراضي الإيرانية، وقصفت عدد كبير من مواقعها النووية، واغتالت عدد ضخم من العلماء النووين والقادة العسكريين في الحرس الثوري الإيراني، ودمرت منصات صواريخ إيرانية، إلا انها في النهاية لم تحقق هدفًا من أهدافها في الحرب!، بل بالعكس، أبدت رغبتها، عبر وسطاء، في وقف القتال، بعد اقتراب نفاد صواريخها الاعتراضية، الخاصة بمنظومة دفاعها الجوي.
وبشهادة الإعلام الإسرائيلي، فإن إيران لم تتأثر، بل العكس!.. النظام الإيراني، الذي كان يعاني من تدني كبير في مستوى قبوله الشعبي قبل الحرب، خرج أقوى بكثير، وتوحدت أطياف الشعب كلها وراء القادة، حتى أن المعارضة نفسها، أعلنت دعمها للنظام.. كل القادة اللي قُتلوا تم استبدالهم، والعلماء النووين الذين ماتوا، هناك غيرهم الكثير، إذ تشير بعض التقديرات أن إيران مازال لديها عشرات وربما المئات من العلماء النووين، ضمن البرامج النووية للدولة.. وقد تسببت الهجمات الأمريكية على مواقعها النووية، وخصوصًا (فوردو) في (أضرار)، ولم ينتج عنها تدمير المواقع بالكامل، وكل الأضرار يمكن إصلاحها فيما بعض.. في ظل عجز وكالة الطاقة الذرية، عن تحديد مكان أربعمائة كيلوجرام من اليورانيوم الإيراني المخصب بنسبة 60%، بعد اختفائها من منشآت إيران النووية، وبالأخص (فوردو)، وهذه كمية تُستخدم في إنتاج عشرة رؤوس نووية، خلال شهور قليلة، في حال توفر الإرادة لدى الإيرانيين لإنتاج القنبلة النووية، هذه الإرادة التي اصبحت واقعًا جديدًا، خصوصًا مع الدعم الشعبي للقيادة الآن، في سعيها لامتلاك القنبلة النووية، لردع أي تهديد مستقبلي من إسرائيل أو أمريكا أو أي من حلفاءهما.
صحيح، أن إسرائيل حققت إصابات مباشرة في إيران، ودمرت مواقع عسكرية ونووية ومدنية، لكن الهدف الأساسي، وهو القضاء على برنامج إيران النووي بالكامل؛ فشل.. وفي المقابل، ردت إيران على الاعتداء بقوة لم يتوقعها أحد في العالم، حتى أنهم زلزلوا إسرائيل كلها بصواريخ فرط صوتية، تجاوزت القبة الحديدية والدفاعات الإسرائيلية ووصلت قلب تل أبيب، ودمرت مدن دولة الإحتلال لأول مرة منذ انشائها!.. ما حدث، كان صدمة حقيقية للرأي العام الإسرائيلي، لدرجة إن الصحفيين، في تقارير الإعلام والصحافة العبرية، ومنها صحيفة (يديعوت أحرونوت)، وفي مقالات وتقارير مرئية ومقروءة، سألوا فيها سؤال واحد: هل انتصرت اسرائيل فعلًا مثلما يروج نتنياهو؟، أم خُدعنا بدخول حرب لم نكن مستعدين لها، ولم تحقق شيئًا مما كان يجب أن نحققها؟!.. لا النظام الإيراني وقع، ولا النووي انتهى، ولا الصواريخ اختفت.. بل على العكس، المدن والمنشآت الإسرائيلية دُمرت لأول مرة في تاريخنا.. ناس ماتوا واقتصاد تدمر، غير المنشآت البحثية، مثل معهد (وايزمان) ومعهد إسرائيل للأبحاث البيولوجية، الذين تدمرا وخسرا عينات وأبحاث لا تقدر بثمن، ناهيك عن المطارات ومصافي البترول والنفط التي ضُربت، ومحطات الكهرباء التي خرجت عن العمل!.. هذا، عدا عن الشعب الإسرائيلي الذي تعرض ـ لأول مرة ـ لأيام طويلة من الرعب، عاشوها في الملاجيء، بينما صافرات الإنذار تدوي في الشارع طول اليوم دون توقف!.
في واشنطن، خدع ترامب الجميع، وحاول الظهور بصورة (المنتصر).. ضرب منشآت إيران النووية، بعد أن تم إخلاؤها، وتشير تقارير صحفية واستخباراتية، إلى انه سرب لطهران ميعاد الضربة متعمدًا، حتى يضمن عدم الرد عليه بقصف القواعد الأمريكية في المنطقة، وحتى لا تتوسع رقعة الحرب.. وبعد قصفها المواقع النووية، عادت الطيارات الأمريكية، دون أن يعترضها أجد، ودون أن تتجاوز أي (خطوط حمراء)، أو تقصف اي منشآت مدنية.. وبهذا، يكون ترامب قد حاز شعبية كبير لدى الجمهور الإسرائيلي، ولدى اللوبي الصهيوني AIPAC الذي ساعده في الوصول إلى الحكم، بالإضافة إلى الجمهوريون، وعند مؤيدينه من التيار اليميني الأمريكي، الذي أصبح يراه راجلًا قويًا، بينفذ أهدافه دون الدخول في حرب، وقادر على أن يلعب دور الحرب والسلام معًا!
أما لماذا تحتفل إسرائيل بنصر كاذب؟.. فذلك مرده إلى أن نتنياهو يريد (صورة انتصار)، يهرب بها من مشاكله الداخلية واتهامات الفساد وجرائم الحرب التي بتطارده، وقد أفلح فعلًا في بيع هذه الصورة لشعبه، بعد الضربات الجوية وقصف (فوردو) واغتيال العلماء والقادة.. لكن الرد الإيراني القوي والصواريخ الإيرانية اللي وصلت تل أبيب، كشفت إن إسرائيل لم تكن مستعدة لهذا الرد، وكان مستحيلًا أن تتحمل تل أبيب هذه الحرب لشهر قادم، خصوصًا بعد التقارير التي قالت، إن ذخيرة الدفاع الجوي الإسرائيلي تم استنزافها، وبالفعل أصابت الصواريخ الإيرانية، في آخر يومين، أهدافها بشكل مباشر ودون اعتراض، ومازال لدى إيران الآلاف من الصواريخ، تستطيع بها، أن تكمل في الحرب شهور وربما سنوات!.. وتبقى حقيقة أن إيران هي من كسبت الحرب فعلًا.. لأنها حافظت على اليورانيوم الخاص بها، وردت الضربة لإسرائيل بشكل قوي وغير متوقع، وأصبح لديها موقف تفاوضي قوي، خصوصًا مع دعم روسيا والصين وباكستان لها في مجلس الأمن.
●●●
■■ وماذا بعد..
حتى لو انهارت هدنة ترامب بين إيران وإسرائيل، فإن قرارًا أمريكيا، بالتنسيق مع نتنياهو، قد اتخذ بوقف حرب المدن بين طهران وتل أبيب.. ومن المتوقع أن تعمل الدوائر في واشنطن وتل أبيب، على صياغة سردية لإنهاء الحرب، تصور إسرائيل منتصرة، (لأن مفهوم الهزيمة لا يجب أن يلتصق بالدولة العبرية إطلاقًا).. في نفس الوقت، تعمل الآلة الإيديولوجية المشبعة بالمفاهيم الدينية لإيران؛ على تركيز فكرة أن صواريخ إيران الفتاكة، أجبرت الكيان المعتدي على وقف إطلاق النار، وأن الضربات الأمريكية على المواقع النووية الإيرانية، لم تقض على البرنامج النووي الطموح وأن ما خصبته المعامل الإيرانية من كميات اليورانيوم، تم نقلها إلى أماكن آمنة.. خسرت إيران العشرات من القادة العسكريين والعلماء إضافة إلى مئات المدنيين؛ فيما تفشى الرعب والهلع في أوساط الإسرائيليين، ليتضح أن قسمًا كبيرًا منهم يتعامل مع (هذه الأرض)، أي فلسطين، على أنها مستوطنة، الأمر الذي كشفت عنه طوابير الباحثين عن منافذ للهروب من جحيم الصواريخ الإيرانية، بحرًا وبرًا، بعد أن غطت صواريخ (آية الله) سماء فلسطين كلها بالرؤوس الملتهبة المنفجرة.
كلفت حرب المدن؛ إيران المحاصرة؛ الكثير من الأرواح والخسائر المادية؛ من غير المحتمل أن تعوض في فترة قصيرة، على خلفية الأزمة المتواصلة في الاقتصاد الإيراني، بينما ستعوض الجماعات اليهودية في العالم والولايات المتحدة، إسرائيل القائمة على اقتصاد التكنولوجيا المتقدمة، مع أن هذا التقدم لم يسعف كثيرًا قبابها الحديدية ومنظوماتها الدفاعية، التي كانت تعمل بكفاءة متدنية قياسًا لنشاطات الموساد المذهلة، الممولة من خزينة الدولة نفسها.. لن يعيد نتنياهو النظر في طموحاته المبنية على الخرافة الدينية، في دولة أسسها علمانيون ملحدون، بل جاحدون داعرون، أمثال تيودر هرتزل المتوفى بمرض السفلس!.. كما من غير المحتمل أن يتراجع آيات الله في قم عن التدخل في دول الجوار، الأمر الذي خلق في الشوارع العربية مشاعر مختلطة، بين الوقوف مع صواريخ إيران، ومشاعر الغضب التي وصلت أحيانا إلى أعلى درجات الحقد على سياسات طهران، في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وأصابت الهزات العاطفية حتى المحللين السياسيين التي فشلت غالبيتهم؛ عن التجرد من الانتماء القومي والمذهبي، في استعراض وقائع الحرب، ولم يتمكن البعض الكثير من إخفاء مشاعره الخاصة، بما يتنافى مع أصول علم التحليل.
قد يعيد الرئيس الإيراني، بزشكيان، النظر في سياسات النظام، ويخفف القيود على الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد، إذ كشف خرق الموساد للمنظومات العسكرية والأمنية، أن الأجهزة المعنية بمكافحة النشاطات الخارجية، أو ما يعرف مكافحة التجسس، كانت مشغولة بملاحقة المعارضة الوطنية، ومنع المثقفين والمبدعين الإيرانيين من التعبير بحربة عن آرائهم، لتصبح إيران المقموعة، ساحة مكشوفة امام الموساد وأجهزة الاستخبارات الغربية.
احتاجت الساعات الأخيرة القيام بضربة (هوليوودية) ضد قاعدة العُدَّيد في قطر، أكثر دول منطقة الخليج صداقة مع طهران، لمنح وساطة الدوحة مصداقية أكبر، وسط تقارير ترددت على مدى حرب الأيام الإثنى عشر؛ بأن قطر تعمل على التوسط مع واشنطن لوقف الحرب، وأن الطرف الإيراني كان يتطلع باهتمام لنجاحها، إلى أن اهتزّ الشارع الإسرائيلي بقوة للهجمات الصاروخيّة، ولم يعد أمام نتنياهو ويمينه الفاشي غير النزول عن بغلته.. لن تنتهي المواجهة الإيرانية ـ الإسرائيلية، مثلما لا تنتهي طموحات البلدين في المنطقة؛ لكن الثابت، أن دورات الحروب ستلاحق شعوب الشرق الأوسط، مثل الزلازل الدورية، على أرضية إرادات سياسية تتحرك بهمجية، وتتصادم مثل صفائح طبقات الأرض المُسببة للزلازل.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.