هل تستطيع أوروبا معالجة أزمة الطاقة في فصل الشتاء؟

هل تستطيع أوروبا معالجة أزمة الطاقة في فصل الشتاء؟

د.أيمن سمير

دخلت أوروبا من جديد في حالة من «الشك وعدم اليقين» حول قدرتها على تأمين الطاقة وخاصة الغاز خلال الشتاء المقبل، بعد أن استهلكت القارة العجوز نحو ثلثي الاحتياطي في الشتاء الماضي، حيث وصلت نسبة المخزونات هذا الشهر إلى 30% فقط، بعد أن كانت كل الحسابات تقول إن أوروبا يجب أن تكون قادرة على ملء المخزون بنسبة 90% في نوفمبر القادم، ويستحيل عملياً في ظل التعاقدات الحالية وتعثر الإنتاج أن تصل أوروبا إلى نسبة تخزين 90% بحلول نوفمبر 2025، وتحتاج دول الاتحاد الأوروبي إلى نحو 260 شحنة غاز تصل تكلفتها ونقلها وإعادة «تغويزها» لأكثر من 111 مليار دولار لسد الفجوة في مخزونات الغاز.

هناك أسباب كثيرة لتراجع هذه المخزونات، وعودة أسعار الطاقة للارتفاع مرة أخرى خلال 2025، منها على سبيل المثال توقف تدفق الغاز الروسي تماماً بعد أن أوقفت أوكرانيا في بداية العام الجاري مرور الغاز الروسي من أراضيها إلى أوروبا عبر خط «أوجهورود» الذي كان ينقل الغاز إلى مولدوفا وسلوفاكيا والنمسا والمجر، ونقل عام 2024 نحو 18 مليار متر مكعب من الغاز بعد أن كان ينقل سنوياً نحو 40 مليار متر مكعب قبل الحرب الروسية الأوكرانية، ناهيك عن فرض عقوبات أمريكية على بنك «غازبرومبنك»، وهو آخر المؤسسات المالية الروسية التي كانت تستقبل مليارات الدولارات نتيجة بيع الغاز الروسي، وكان هذا البنك معفى من العقوبات منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، وزاد الطقس البارد من معاناة مخازن الغاز الأوروبية هذا العام حيث استمرت درجات الحرارة المنخفضة ودون الصفر في بعض دول وسط وغرب أوروبا حتى نهاية إبريل الماضي، بالإضافة إلى زيادة الطلب العالمي على الطاقة في عام 2024 وبداية 2025 نتيجة تعافي الاقتصاديات العالمية، ناهيك عن حاجة مراكز البيانات العملاقة للذكاء الاصطناعي التي تبنيها الدول الأوروبية إلى كميات غير مسبوقة من الطاقة، فمن المتوقع أن تستهلك شركات التكنولوجيا مثل أبل وميتا وأمازون كميات هائلة من الطاقة لتشغيل مراكز بياناتها للذكاء الاصطناعي، ولعل انقطاع الكهرباء عن إسبانيا والبرتغال وأجزاء واسعة من جنوب وغرب فرنسا خير شاهد على أزمة الطاقة التي يبحث قادة الاتحاد الأوروبي عن حلول لها «خارج الصندوق» حتى لا تعود وتطل من جديد خلال شتاء السنوات القادمة، حيث تشير كل التقديرات إلى أن هذه الأزمة قد تمتد إلى شتاء 2027 إذا لم يكن هناك تحرك نوعي وقرارات سريعة من جانب المفوضية الأوروبية، فما هي أبعاد أزمة الطاقة الأوروبية؟ وهل من حلول سريعة للأزمة؟ وكيف تعزز الدول الأوروبية استراتيجيتها نحو أمان دائم ومستدام في ملف الطاقة في ظل الكثير من الدعوات التي تطالب بوقف الاعتماد على الغاز الروسي بما فيه الغاز المسال نهائياً عام 2027؟

تحديات

رغم الجهود الكبيرة والناجحة في كثير من الأحيان التي قام بها الاتحاد الأوروبي للتخلص من «الاعتمادية الأوروبية» على الغاز الروسي إلا أن شبح أزمة الطاقة لا يزال يطارد دول الاتحاد، وتشكل الخلافات بين 27 دولة هي أعضاء الاتحاد أكثر التحديات تعقيداً التي تمنع أوروبا من اتخاذ قرارات موحدة تساهم في تجاوز أزمة الطاقة وتأثيرها العميق ليس فقط في مستوى توفير التدفئة للمنازل، بل في مستوى التنافسية الاقتصادية والتجارية للبضائع الأوروبية مع نظيرتها الصينية والأمريكية، فطالما كان الغاز الروسي الرخيص القادم عبر خطوط الأنابيب أحد أركان تنافسية الصناعات الأوروبية ورفاهية المواطن الأوروبي، ويواجه مفهوم ومعنى «أمان الطاقة الأوروبي» مجموعة من التحديات أبرزها:

أولاً: الخلاف حول الغاز الروسي

قبل الحرب الروسية الأوكرانية كانت أوروبا تشترى نحو 40% من حاجتها من الغاز الروسي القادم عبر خطوط «نورد ستريم 1»، وياماك «وترك ستريم» بالإضافة لخط «أوجهورود» الأوكراني، لكن بعد الحرب وتفجير خط «نورد ستريم 1» في سبتمبر 2022 والذي كان ينقل سنوياً نحو 55 مليار متر مكعب من الغاز تراجع اعتماد الأوروبيين على الغاز الروسي، لكن ظل الغاز الروسي يتدفق حتى 31 ديسمبر 2024 عبر خط الغاز الأوكراني، وخط ترك ستريم، بالإضافة إلى شحنات الغاز الروسي المسال، وبداية من شهر يونيو الجاري زادت الخلافات الأوروبية ما بين المفوضية الأوروبية التي تريد إصدار تشريع قانوني يمنع وصول الغاز الروسي أو أي مصادر طاقة أخرى مثل اليورانيوم والكهرباء والنفط الروسي إلى أوروبا، فمنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية كانت هناك «توصية فقط» بالتوقف عن استيراد الغاز الروسي، بينما الآن تريد المفوضية الأوروبية تحريم ذلك عن طريق قانون وتشريع.

لكن على الجانب الآخر هناك دول مثل المجر وسلوفاكيا وبلغاريا ما زالت تعتمد على الغاز الروسي القادم من خط «ترك ستريم» الذي له فرعان، فرع محلي يقوم بنقل الغاز الروسي إلى تركيا، بينما الخط الآخر يتجه نحو الشمال الغربي في اتجاه أراضي الدول الأوروبية، وحذر رئيس وزراء سلوفاكيا، روبرت فيتسو من أن الاتحاد الأوروبي سيكون الأكثر تضرراً في حال توقف إمدادات الغاز الروسية، ويحتاج قرار وقف تدفق الغاز الروسي لأوروبا إلى إجماع 27 دولة أعضاء الاتحاد الأوروبي، وأي تحرك في هذا الشأن سوف يواجه بالاعتراض من جانب المجر وسلوفاكيا.

ونتيجة للتوجه العام لفرض مزيد من العقوبات على الاقتصاد الروسي، وخفض الاعتماد على الطاقة الروسية، انخفضت حصة روسيا من واردات الاتحاد الأوروبي من الغاز عبر الأنابيب إلى نحو 11% عام 2024 بعد أن كانت نحو 40% عام 2021، وبنهاية العام الماضي استقبلت دول الاتحاد الأوروبي أكثر من 100 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي «المسال» كان نحو 25% منها من الولايات المتحدة الأمريكية، لكن التكلفة المرتفعة للغاز المسال تشكل عبئاً آخر على المستهلكين الأوروبيين.

ثانياً: محدودية الإنتاج

رغم توافر الأموال والإرادة السياسية الأوروبية لشراء الغاز بعيداً عن روسيا، فإن تراجع مستويات الإنتاج العالمية من الغاز أو عدم القدرة على التوسع في خطوط الإنتاج بشكل سريع يمثلان تحدياً كبيراً أمام تلبية الاحتياجات الأوروبية من الغاز، فعلى سبيل المثال كانت هناك خطة لتطوير وتحسين الإنتاج في خط غاز تكساس الأمريكي، ويدعم الرئيس ترامب هذه الخطط بكل ما يملك، لكن الحقائق على الأرض تقول إن هذا قد يحتاج إلى عامين للحصول على زيادة كبيرة في إنتاج هذا الخط، وبالفعل تعاقد المصدرون من الخليج وأستراليا على غالبية الإنتاج، وبالتالي لا توجد مساحة كبيرة لتحرك الاتحاد الأوروبي نحو شراء المزيد من شحنات الغاز المسال غالي الثمن خصوصاً في ظل المنافسة الشرسة مع الأسواق الآسيوية الناشئة والتي عادت للتعافي الاقتصادي والقدرة الاقتصادية الكاملة بعد جائحة كورونا.

ثالثاً: ضعف قدرة ترك ستريم

مع إغلاق أوكرانيا خط مرور الغاز الروسي إلى أوروبا في 31 ديسمبر الماضي، فكر البعض في توسيع قدرة خط ترك ستريم «الفرع الأوروبي» الذي يمتد لنحو 930 كلم، وينقل الغاز الروسي عبر تركيا إلى شرق وجنوب أوروبا، لكن المشكلة التي تواجه هذا الخط أن القدرة الاستيعابية له لا تزيد على 15.75 مليار متر مكعب في العام، وهي نسبة لا يمكن أن تعوض النقص الناتج عن خطوط عملاقة مثل خط «نورد ستريم 1»، الذي كان ينقل 55 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، ناهيك عن توقف خط يامال الذي كان يمر عبر بيلاروسيا، والخط الأوكراني بشكل كامل، وتدمير خطي نورد ستريم 1و2 في سبتمبر 2022.

أهم الحلول

يعمل الاتحاد الأوروبي على مجموعة من الخطوط والمسارات والهدف منها وقف الاعتماد على كافة أشكال الطاقة الروسية بنهاية عام 2027، وتقوم هذه الاستراتيجية على مجموعة من الخطوات أبرزها:

أولاً: العودة للطاقة النووية

نتيجة للضغط من أحزاب الخضر خلال السنوات العشر الماضية تخلصت بعض الدول الأوروبية من الكثير من المفاعلات النووية، ووضعت خطط قصيرة ومتوسطة المدى للتخلص مما تبقى لديها من المفاعلات التي تنتج كميات كبيرة من الطاقة الكهربائية منخفضة الكربون، لكن نتيجة لعدم قدرة الطاقة الجديدة والمتجددة على سد احتياجات أوروبا من الطاقة بدأ عدد من دول الاتحاد الأوروبي ب«إعادة التفكير» في إغلاق المفاعلات النووية خصوصاً مع الانقطاع الواسع للكهرباء في إسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا، وتعمل عدد من الدول الأوروبية في الوقت الحالي لتخفيف القيود على عمل المفاعلات النووية، وتشهد دول أخرى مناقشات من أجل ضخ مليارات اليوروهات لإنتاج الطاقة النووية، ففي إسبانيا بات الحديث عن ضرورة تمديد عمل 8 مفاعلات نووية كان يفترض التخلص منها عام 2035، ولا ينوي المستشار الألماني فريدريش ميرتس إغلاق المحطات النووية الثلاث قريباً بعد أن كان مقرراً التخلص منهم عام 2030، وفي ألمانيا يجري الحديث بإيجابية شديدة عن الطاقة النووية باعتبارها منخفضة الكربون ورخيصة السعر وتشكل مخرجاً في ظل تراجع المخزونات الحالية، واتخذت سويسرا قراراً برفع القيود التي كانت على بناء المفاعلات النووية منذ عام 2018.

ثانياً: دعم مسار الطاقة النظيفة

أكثر النصائح التي يعمل بها الاتحاد الأوروبي هو «العمل بالتوازي» على كافة مسارات تأمين الطاقة، ومنها رفع سقف الطموحات فيما يتعلق بمصادر الطاقة الجديدة والنظيفة خصوصاً طاقة الرياح، ووضعت الدول الأوروبية هدفاً كبيراً وهو أن تشكل الطاقة النظيفة نحو 45% ضمن مزيج الطاقة الأوروبي بحلول 2030، وهذا الهدف يحتاج استثمارات ضخمة لكن المفوضية الأوروبية قالت إنها قادرة على تدبيرها.

ثالثاً: تنويع مصادر الإمداد

منذ عبور أول جندي روسي باتجاه أوكرانيا في 24 فبراير 2022 بدأ الاتحاد الأوروبي في البحث عن بدائل للغاز الروسي، وتنويع مصادر الطاقة، وهناك دعوات للاستجابة لطلبات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باستيراد مزيد من الغاز الأمريكي المسال مع العمل في ذات الوقت على توسيع موانئ استقبال الغاز المسال عبر إعادة تأهيل بعض الموانئ، وهو ما يقلل من كلفة التخزين حيث تشكو الدول الأوروبية غير الساحلية مثل النمسا وسلوفاكيا والتشيك من تحميلها نسبة كبيرة من أسعار التخزين، وباتت دول مثل النرويج والجزائر ودول الخليج مصادر إضافية ومستقرة لتوريد الغاز للقارة العجوز، وهذا يحتاج إلى توسع من الاتحاد الأوروبي في استقبال شحنات الغاز المسال، حيث تعمل دول الاتحاد على بناء 17 محطة «تغويز وإسالة» جديدة، بالإضافة إلى نحو 24 محطة تعمل بالفعل على سواحل دول الاتحاد.

رابعاً: أذربيجان و«الممر العمودي»

نظراً لتفاقم مشكلة الطاقة بشكل أكبر في شرق ووسط أوروبا، وتركز محطات إسالة الغاز في شمال غرب أوروبا يجري التفكير في مشروع «الممر العمودي» الذي يهدف إلى ربط وتسهيل نقل الغاز بين سبع دول أوروبية هي أوكرانيا والمجر واليونان وبلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا ومولدوفا، وهذا يسمح باستخدام شبكة الغاز الأوكرانية لاستقبال تدفقات الغاز من أذربيجان، ويطلق على الغاز القادم من أذربيجان عبر تركيا «الممر الجنوبي للغاز»، وهو مشروع يهدف لنقل 10 مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً من منطقة بحر قزوين عبر أذربيجان وتركيا إلى أوروبا، وفي المرحلة الأولى كان المشروع يضخ الغاز من حقل «شاه دنيز»، وحقول أخرى، ويتضمن الممر عدة خطوط أنابيب، وقدرت تكلفته الإجمالية بنحو 40 مليار دولار حيث جرى إنفاق 9.3 مليار دولار لبناء خط الأنابيب «تاناب»، الذي يمتد من أقصى شرق تركيا إلى أقصى غربها بطول 1850 كم، ونحو 6 مليارات دولار لبناء خط الأنابيب «عبر الأدرياتيكي»، و23.8 مليار دولار لتطوير حقل «شاه دنيز» وتوسيع خط أنابيب «جنوب القوقاز».

المؤكد أن أوروبا تدرك أن وقف تدفق الغاز الروسي تحد كبير، لكنها تنظر في ذات الوقت إلى المكاسب الجيوسياسية من السعي لإنهاء الاعتمادية على الغاز الروسي، حيث ترى أوروبا أنها تحصل على حريتها في مجال الطاقة بعد اعتمادها لنحو 50 عاماً على الطاقة الروسية، لكن هذا يفرض على القارة الأوروبية التحرك بشكل نوعي بهدف استدامة إمدادات الطاقة، وتخفيف التأثيرات الاقتصادية على الصناعات والمستهلكين حتى لا تلقي هذه الأزمة بتوابعها وارتداداتها على معدلات النمو الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية.

[email protected]