لورنس العرب: أحاجي غير مكتشفة

لورنس العرب: أحاجي غير مكتشفة

أصدر المركز القومي للترجمة كتاب «لورنس في شبه الجزيرة العربية.. الحرب والخداع والحماقة الاستعمارية وصناعة الشرق الأوسط الحديث» لمؤلفه سكوت آندرسون، ترجمة محمد صبري الدالي، وتعود أهمية هذا الكتاب إلى عدد من الأسباب، منها ضرورة الإبقاء على حضور الوعي العالمي بشكل عام، والعربي بشكل خاص، بخصوص ما حدث في أجزاء من بلادنا العربية، في تلك المرحلة من تاريخها، وكيف صنعت الحدود، كما أن الكتاب محاولة لفهم ما قيل عن أسطورة لورنس التي صاغها الغرب نفسه، ومحاولة للكشف عن المزيد عن تلك الشخصية في سياق فضح سياسات القوى الاستعمارية الغربية بالمنطقة، وبشكل أكثر موضوعية مما كان قبل.
يطرح الكتاب الكثير من الأضواء المهمة والجديدة على ما حدث في المشرق العربي، في تلك المرحلة، والأهم من هذا أن مؤلف الكتاب أمريكي الجنسية، بمعنى أنه لا يمكن اعتباره منحازاً للعرب، ولا متحاملاً على الغرب، كما تعود أهمية الكتاب إلى اعتماد مؤلفه على الكثير من الوثائق التي أتاحتها الأرشيفات في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وغيرها، فضلاً عن اعتماده على الكثير من المذكرات واليوميات والدراسات الحديثة.

بنية

قامت بنية الكتاب على أساسين رئيسين: الشخصيات التي عملت في مسرح المنطقة العربية، قبيل الحرب العالمية الأولى، وفي أثنائها وما بعدها، ثم الأحداث والقضايا المهمة التي انخرط هؤلاء الأشخاص فيها، حتى لقد جرى الربط بين القضايا والأحداث والشخصيات بشكل وثيق وواضح في إطار علاقات سببية بعينها.
بالنسبة للشخصيات حاول المؤلف الغوص في جذور كل شخصية (بتتبع نشأتها وتربيتها وتعليمها وطموحاتها، والسياقات التي أودت بها للانخراط في أحداث المنطقة، والدور الذي لعبته، وكيف استخدمت، أو كيف حاولت استخدام دورها، وصولاً إلى نهاية هذه الشخصية بالموت).
والواقع أن الكتاب به عدد من الشخصيات الرئيسية، التي تمثل وتعكس المشروع الغربي بكل تجلياته وتناقضاته مع المشروع العثماني، وبالطبع بكل تناقضاته مع المشروع العربي الراغب في الاستقلال آنذاك عن الدولة العثمانية، ولو بالاستعانة بالمستعمر الغربي.
أما توماس إدوارد لورنس فكان ذلك المستشرق الصغير، الذي يمثل المشروع الغربي منذ البداية، وإن انتابته بعد فترة هواجس أخلاقية وإنسانية واقعية، حتى ليبدو وكأنه انقلب أحياناً ضد مشروع بلاده الذي جاء إلى الشرق من أجله، وعمل فيه لفترة تحت ظل «صندوق استكشاف فلسطين».
أما آرون آرونسون وعائلته فكانوا يمثلون المشروع القائم على استغلال الامتيازات الأجنبية، والظروف والتناقضات بكل أشكال الاحتيال، وإن تدثر ذلك في أشكال علمية أو سياسية أو حتى اجتماعية وثقافية، أما «كيرت بروفر» فكان يمثل ذلك الطموح الألماني الجارف، لتحقيق نفوذ في الشرق، تمهيداً لأخذ نصيب من تركة «رجل أوروبا المريض» حتى وإن كان في إطار محاولة استغلال أفكار الجامعة الإسلامية والخلافة، أو حتى النزعات القومية والوطنية (الشامية والمصرية).
أما جمال باشا فكان يمثل المشروع العثماني بكل تناقضاته الحائرة بين الشرق والغرب، بين التقليد والحداثة، بين السياسة الإسلامية وإبقاء الاحتلال العثماني للمنطقة، وأما الشريف حسين وابناه فيصل وعبد الله، فكانوا يمثلون مشروعهم العربي الذي حاول استغلال ضعف الدولة العثمانية، ومكانتهم الدينية والسياسية، لتحقيق مكاسب سياسية واسعة، لكنهم كانوا أشبه بالمستجير من الرمضاء بالنار.
وكان ويليام ييل يمثل ذلك الوافد الأمريكي الجديد إلى حد ما على المنطقة، والذي كان لا يزال يراوح بين عزلته التي غدت مصطنعة، ومحاولة التغلغل الاقتصادي في الأساس بالمنطقة، لكنه سرعان ما تطورت طموحاته وآلياته في ظل براجماتيته المتدثرة بدعاوى أخلاقية، من هنا فإن الكتاب ليس ترجمة لحياة لورنس، بقدر ما هو دراسة عن كل ما له علاقة للورنس بالشرق العربي (الجزيرة العربية والشام الكبرى).

تناقض

على مدار القرن الماضي جرى استخدام أسطورة لورنس لأغراض متناقضة؛ إذ إن بعض المهتمين استخدموها للتأكيد على شغف الإنجليز المفترض بالأعمال البطولية، بينما استخدمها آخرون لتقديم مثال على الخداع الذي مارسته بريطانيا الاستعمارية لا سيما عندما يتعلق الأمر بالغدر بالأصدقاء وتوجيه طعنة لهم من الخلف، لكن آندرسون يبدأ كتابه بمعارضة وجهات النظر تلك، عندما يضع العنوان «لورنس في جزيرة العرب» وليس «لورنس العرب»، وهكذا يضع البطل الأسطوري في الطريق الصحيح.
إذا كان الكتاب جعل من لورنس الشخصية المحورية، فقد أوضح جدلية وأهداف هذه الشخصية، التي نبعت أساساً من طبيعة التعليم، الذي تلقاه في إطار الاستشراق وأهدافه، وطبيعة شخصيته المركبة، والمهام الاستخباراتية المعقدة التي أنيطت به، وكانت تخدم أهداف السياسة البريطانية في المنطقة، تلك الأهداف التي تلاقت وامتزجت أو اختلفت فيها الأهداف الاستعمارية البريطانية والفرنسية والألمانية مع الأهداف الصهيونية.

المسألة الشرقية

في كل الأحوال فإن تلك الأهداف والسياسات إنما كانت في سياق المرحلة الأخيرة من «المسألة الشرقية» التي خرجت من رحمها كثير من المسائل المشكلات، العربية الأخرى، وأهمها المشكلة الفلسطينية، وإذا كان لورنس قد بقي لغزاً في حياته فإنه وعلى الرغم من كل ما كُتب عنه، بقي لغزاً بعد موته، ومن الواضح أنه سيبقى كذلك، إلى أن يجري الاطلاع على كل الوثائق الخاصة بتلك الفترة، وإلى أن تخرج المزيد من الدراسات الموضوعية وغير المتحيزة عنه، بل إلى أن تُدلي المدرسة التاريخية العربية بدلوها بشكل أكثر عمقاً وجدية بخصوص تاريخ تلك المرحلة الفارقة في التاريخ العربي، التي تخص أبناء المنطقة قبل غيرهم.