«مؤتمر المجانين».. تحليل عقلاني للثورة الرقمية

المسرح الشبابي هو جزء لا يتجزأ من كينونة «أبو الفنون» في الإمارات، ويعد مهرجان دبي لمسرح الشباب الذي انطلقت دورته الأولى في عام 2007، أحد المهرجانات التي تثري الساحة المحلية بتجارب متميزة يقوم بها طواقم من الشباب تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً وسينوغرافياً، وهذا بطبيعة الحال يثري الساحة المحلية بتجارب وإبداعات تضيف إلى التراكم الفني لمسيرة «أبو الفنون» في الدولة.
من التجارب الفنية المهمة التي يمكن الإشارة إليها في هذا الإطار، مسرحية «مؤتمر المجانين» لفرقة جمعية ياس للثقافة والفنون، تأليف د. محفوظ غزال، وإعداد وإشراف الفنان محمد صالح، ومن إخراج عبد الله الحمادي.
الفكرة بحد ذاتها مدهشة، كأن تضطلع مجموعة من الأشخاص ليسوا أسوياء – بالمعنى المجازي – في مناقشة قضايا جادة، على المسرح، وهي بكل تأكيد لا بد أن تحمل ثراء من نوع خاص حين يتم تحويلها إلى عرض بشحنة درامية تليق بآليات الفن المسرحي، المجانين هنا، يناقشون قضايا ورؤى مختلفة ومعقدة، من خلال لغة فنية غير تقليدية، تعبر عن أزمة أو صراع داخلي.
حدوتة
تتلخص حدوتة المسرحية من خلال قيام مجموعة من المجانين بعقد محكمة ضد جملة من القيم السائدة، بقصد تعرية كثير من المفاهيم والعادات السلبية التي نتجت جراء العولمة والثورة الرقمية، ينقد المجانين أول ما ينقدون وسائل الإعلام الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي، وهي من وجهة نظرهم، يساء استخدامها وهي لا تخدم الحقيقة بشيء، وينجم عن ذلك أضرار لا حصر لها، الأخبار السياسية من وجهة نظر محكمة المجانين رائجة على نحو سلبي، أما القضايا الاجتماعية فهي ذات حضور طاغ، فهناك سطوة لأخبار الفضائح وتناول الأسرار الخاصة للناس، مما يسبب أذى بالغاً لكثير من الشخصيات والعائلات، هنا، توجّه محكمة المجانين نقداً لاذعاً لهذا الخراب المستفحل، أما القضايا الجادة كالموضوعات الثقافية والإنسانية فلا وجود لها كما يطرح العرض، الذي يقدم نقداً صريحاً للمنصات الدولية التي تحكي كثيراً عن حقوق الإنسان من دون نتائج ملموسة على أرض الواقع، ومن نتائج ذلك تلك الصراعات والحروب والمآسي التي تنهش آدمية البشر في أنحاء مختلفة من العالم.
أسئلة
استطاع العرض أن يثير الكثير من الجدل في الندوة التطبيقية التي أعقبته، ودارت النقاشات حول موضوعات إنسانية في شتى مناحي الحياة، مما يعني أن ثمة اغتراباً حاداً، وفجوة شاسعة بين الحقيقة وما تبثه وسائل التواصل الرقمي، وهذا كله يلقي بظلاله على الجوهر الإنساني الذي يشهد اغتراباً مريراً عن واقعه، فسادت قيم غاية في السلبية والسوء والفوضى على مستوى الدول والأفراد البسطاء، ما يطرح سؤالاً كبيراً على الواقع المعيش الذي لم ينجح سوى في استثمار وسيادة قيم الاستهلاك، ما يعزز الفجوة بين الطبقات والشرائح الأقل حظاً، وهذا من وجهة نظر العرض أصاب المجتمعات بضرر كبير يحتاج إلى دق ناقوس اليقظة ومحاولة إصلاح مثل هذه القيم السالبة والضارة.
نجاح
انتبه الفنانون ونقاد المسرح، إلى ذلك الأداء اللافت الذي جسّدته الشخصيات الرئيسية في العرض: (حمد النقبي ومازن الزدجالي ومعتصم زيدان وجعفر ماردنلي) الذين مثلوا تجارب إبداعية شبابية واعدة، فضلاً عما حمله العرض من رؤية إخراجية اشتغلت على سينوغرافيا ناجحة أضافت إلى ثراء النص الذي وصف بأنه نص متسق وثري بما طرحه من مضامين.
من جانبهما لفت كل من محمد صالح وعبد الله الحمادي، إلى الجانب التقني في المسرحية التي تنتمي إلى مدرسة مسرح ما بعد الدراما، وهو مصطلح يشير إلى نوع من المسرح المعاصر الذي يتجاوز النصوص الدرامية التقليدية ويؤكد عناصر أخرى مثل الجسد، الفضاء، الصوت، والإضاءة في العرض المسرحي. ويركز على التفاعل بين الممثلين والجمهور.
جماليات
وقد وُصِف العرض بأنه استطاع تقديم فرجة حافلة بالجماليات الفنية والمضمون الثري والرصين،
قد لفت بعض النقاد إلى فضاء العرض المحمّل بمساحات وأبعاد ممتعة تتغير تبعاً للتحولات المعرفية والفنية، بموازاة ما يحصل على أرض الواقع بغية انتشالها من الخراب الذي ينخر بقوة في آدمية الإنسان.