التداول بالمقايضة في زمن الدولار | خالد حسن

التداول بالمقايضة في زمن الدولار | خالد حسن

خالد حسن*

في ثمانينات القرن العشرين، أبرمت شركة «بيبسي» صفقة فريدة. باعت الشركة كمية من زجاجات مشروبها الشهير «بيبسي» في الاتحاد السوفييتي، وحصلت في المقابل على ما يُعادلها في القيمة من زجاجات الفودكا الروسية. ثم قامت الشركة ببيع الفودكا في السوق الأمريكي لتحصل على قيمة البيبسي، الذي باعته في الاتحاد السوفييتي، مُضافاً إليه ربحية تصدير البيبسي وربحية استيراد الفودكا للولايات المتحدة الأمريكية.
تمت الصفقة التجارية من دون الحاجة إلى روبل أو دولار. وهو ما يَندرج تحت نظام تجارة المقايضة أو Countertrade. وهي شكل من أشكال التجارة، يتضمن تبادل السلع أو الخدمات بسلع أو خدمات أخرى مساوية لها في القيمة. وهو أقدم شكل من أشكال التجارة. لعل أشهر الأمثلة التاريخية كان الرحلة التجارية التي قامت بها الملكة حتشبسوت إلى بلاد بونت «الصومال»، والتي تم خلالها تبادل السلع المصرية بسلع محلية.
تطور هذا الشكل التقليدي للتجارة، عبر التاريخ، من تبادل لسلعة بأخرى، وفقاً للاحتياجات المتبادلة بين الأفراد والجماعات إلى نظام مُعترف به دولياً. في القرن السادس عشر ومن بعده السابع عشر (فترة المذهب التجاري Mercantile Doctrine)، تم ترسيخ أهمية التجارة الدولية، وخاصة الصادرات، لدورها في تراكم ثروة الأمم، المُمثلة في الذهب والفضة وهي عملات التجارة وقتها. وفي القرن الثامن عشر، ومع ظهور الفكر الليبرالي والترويج لاقتصاد السوق الحُر، شَغلت العملات النقدية أهمية كبيرة بصفتها وسيلة لتداول السلع والتبادل التجاري. وتم استخدام الدولار الأمريكي بصفته عملة التجارة الدولية، بعد إقرار نظام بريتون وودز 1944، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وسعى هذا النظام إلى تحقيق استقرار نقدي عالمي، بعيداً عن صراعات الدول لفرض قيود تجارية على واردتها وتشجيع صادراتها. وضَمن هذا النظام بريتون ربط الدولار الأمريكي بالذهب (أوقية الذهب تعادل 35 دولاراً)، مع قابلية تحويله عند الطلب.
وتحول الدولار إلى عُملة المُبادلات التجارية، في ظل نظام تم انتقاده بشدة من حلفاء الولايات المتحدة، لأنه منح الدولار مكانة مميزة بعيداً عن حقيقة أدائه الاقتصادي الحقيقي. ومع طلب الحلفاء بتحويل الدولار، الذي تحتفظ به الولايات المتحدة، إلى ما يقابله في القيمة من الذهب الذي لديها، قرر الرئيس الأمريكي إعلان نهاية النظام، عام 1971 وتم إلغاء قابلية تحويل الدولار إلى ذهب. تسببت قرارات الرئيس نيكسون في تحسن اقتصادي أمريكي وإعادة انتخابه، لكنها كانت أحد أسباب أسباب الكساد الاقتصادي، خلال الفترة 1973-1975، وما تلاها من ركود تضخمي، خلال سبعينات القرن الماضي.
ما بعد بريتون وودز تحولت الدول الغربية واليابان إلى نظام سعر الصرف الحُر، الذي تحدده قوى السوق. لكن ظل الدولار مُحتفظاً بمكانة مهمة في التجارة الدولية، وتحول بمرور الوقت إلى سلاح اقتصادي خاصة ضد الدول الناشئة والنامية، والتي تعتمد على حرية التجارة في نموها.
حالياً، وعلى الرغم من تحول غالبية دول العالم إلى نظام السوق الحر، فإن تجارة المقايضة لم تختف، بل ما زالت نموذجاً تستخدمه دول العالم بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
غالباً ما اقترن استخدام تجارة المقايضة بنُدرة العُملة الصعبة، أو غياب الاستقرار الاقتصادي. على سبيل المثال لجأ الاتحاد السوفييتي لإبرام صفقات متكافئة، نوع من أنواع المقايضة التجارية، لمبادلة السلع السوفييتية بالسلع التي يحتاج إليها من دون الحاجة إلى استخدام عملات نقدية، وذلك عندما فرضت الدول الغربية قيوداً تجارية عليه. أيضاً في عام 2013 باعت إيران النفط للصين والهند مقابل الذهب، بسبب العقوبات الأمريكية.
هذه الأمثلة تشير إلى حقيقتين الأولى هي أن تجارة المقايضة تساعد على التخفيف من حدة مشكلة نقص العُملات الصعبة أو الدولار. والحقيقة الثانية هي أن الدولار ليس مجرد وسيلة دفع، لكنه أيضاً سلاحاً اقتصادياً تستخدمه الولايات المتحدة وحلفاؤها في فرض سيطرتها واستعراض قوتها.
ولكن بالتمعّن في تجارة المقايضة، نجد أنها نجحت في ظل ظروف مُواتيه مثل امتلاك الدول لسلع استراتيجية كالحبوب والزيوت والغاز والبترول. كما أن حجمها يعتمد على درجة مرونة النظام الدولي، فمثلاً خلال حقبة الاتحاد السوفييتي كان المجال أكثر ملاءمة من عصر السيطرة الأمريكية. ويلاحظ أيضاً أن اللجوء لهذا النظام، ارتبط بالدول التي تعاني سواء من عقوبات أو صعوبات اقتصادية.
وهنا يظهر سؤال مهم، هل يمكن الاعتماد على تجارة المقايضة لدعم جهود التنمية الاقتصادية في الدول التي تعاني مشاكل اقتصادية؟
الإجابة هي نعم. فلا تقتصر أهمية تجارة المقايضة على تجاوز مشاكل نقص العملة الصعبة، فهي تُسهم في الوصول إلى أسواق جديدة من خلال ربط صادرات الدولة بوارداتها من الدول الأخرى. كما أنها آلية لتمويل الواردات اللازمة، من دون استنزاف احتياطيات النقد الأجنبي. وأخيراً، فإنها قد تساعد على نقل التكنولوجيا إلى الدول النامية، إذا ما وضعت الدولة نقل التكنولوجيا كشرط في إبرام الاتفاقات التجارية.
ولا تقتصر المُقايضة على الاتفاقات الحكومية، كما يحدث في اتفاقات بعض وزارات الدفاع مثل وزارة الدفاع الأمريكية، بل يمكن أن تستخدمها الشركات بصفتها وسيلة للانتشار السريع في الأسواق النامية.
تجارة المقايضة عملية مُعقدة تتطلب تفكيراً استراتيجياً، ومهارات تفاوضية، وفهماً عميقاً للسوق المحلي والأسواق الخارجية.
*خبير الاقتصاد الدولي