منافسة نظم الدفع العالمية | محمد الصياد

منافسة نظم الدفع العالمية | محمد الصياد

د. محمد الصياد*

صراع السلطة العالمية المندلع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، له عدة أوجه، ويُخاض على أكثر من صعيد.. جيوسياسي وتجاري، واقتصادي (استثماري)، استحواذي، وتكنولوجي. في الشهور الثلاثة الماضية، تابعنا معاً الإنجازات التي فاجأت بها الصين العالم في مجال الذكاء الاصطناعي، حين تحدثت وسائط الميديا الأمريكية ومنها ال «سي إن إن» عن أن أحدث نموذج صيني للذكاء الاصطناعي، الذي يتميز بالكفاءة والقوة بشكل مدهش الأمر يتعلق بطرح الشركة الصينية الناشئة «هانغتشو ديب سيك» لأبحاث التكنولوجيا الأساسية للذكاء الاصطناعي
Hangzhou DeepSeek Artificial Intelligence Basic Technology Research Co، نموذجها للاستدلال DeepSeek R1، من الجيل الأول، تم تدريبه باستخدام التعلم التعزيزي واسع النطاق (RL)، لحل مهام الاستدلال المعقدة، عبر مجالات مثل الرياضيات والترميز واللغة، ويوفر استجابات مماثلة لنماذج اللغة الأمريكية، مثل GPT-4o وo1، اللذين أنتجتهما شركة OpenAI الأمريكية، وهو ما أحدث ضجة كبيرة في صناعة التكنولوجيا، وأثار أعصاب «وول ستريت».
حدة هذا الصراع القطبي تدور رحاه، هذه المرة، حول أنظمة الدفع الدولية التي تهيمن عليها تاريخياً الولايات المتحدة، فقد قرر إقليم هونج كونج التابع للصين تحدي شركات التسوية الأوروبية
(European settlement houses)، التي تدير أصولا بقيمة 62 تريليون دولار. «يوروكلير» Euroclear البلجيكية، التي توفر خدمات التسوية المحلية والعابرة للحدود والخدمات ذات الصلة في العالم لمعاملات السندات والأسهم والصناديق المتداولة في البورصة وصناديق الاستثمار المشترك، ومجموعة «كليرستريم» Clearstream Group اللوكسمبورجية، إحدى أذرع مجموعة «دويتشه بورس»، التي تقدم خدمات التسوية والحفظ، بالإضافة إلى خدمات أخرى ذات صلة بالأوراق المالية في جميع فئات الأصول. باختصار، هذه البيوتات المالية الأوروبية، تضطلع بوظيفة حماية الأصول وحفظ السجلات، ونقل الأصول من البائعين إلى المشترين. و«يوروكلير» هي الشركة العاملة في السوق بأصول تبلغ 42 تريليون دولار، بينما تبلغ أصول «كليرستريم» 20 تريليون دولار.
ويبدو أن الصين قررت، أن الوقت قد حان لبورصة هونغ كونغ للتداول، لأن تقتطع لنفسها حصة من هذا السوق بالغ الضخامة، بعد أن تهيأت لها الظروف المناسبة، متمثلة في سعى أوروبا لمصادرة 200 مليار يورو من الأصول الروسية المجمدة والاستيلاء عليها، فضلاً عن توجه الصين تدريجياً لتدويل الرنمينبي/اليوان الصيني، فقد أعلنت بورصات ومقاصة هونغ كونغ، التي تدير سوق الأسهم، يوم الثلاثاء 4 مارس/ آذار 2025، أنها تعمل مع السلطة النقدية في الإقليم، لتطوير مركز تسوية دولي آسيوي قادر على منافسة «يوروكلير» البلجيكية و«كليرستريم» اللوكسمبورجية، وذلك في إطار سعي الصين لتقليل اعتمادها على الأنظمة المالية الغربية، في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية العالمية.
على المدى الطويل، سوف يؤثر هذا التحول، في مؤسسات التسوية الأوروبية، وذلك دفعاً لثمن انغماس بلدانها بشكل عميق وخطر في الصراع الجيوسياسي الأوروبي، بما يشمل ذلك توجسات دول الجنوب العالمي من شراسة سياسة العقوبات والسياسات النقدية والمالية، التي صارت تطغى على طبيعة الإدارة الاقتصادية الكلية للاتحاد الأوروبي، نتيجة لهوسه بالحرب، التي يندفع إليها في إعادة إنتاج للأجواء الاقتصادية، التي سادت أوروبا عشية الحربين العالميتين الأولى والثانية.
كانت هونغ كونغ دائما قناة جذب الاستثمار الأجنبي للصين، وهي في طريقها لاستعادة مكانتها كمركز مالي بعد فشل الثورة الغربية الملونة فيها عام 2019. قد لا تكون الصين – على المدى القصير على الأقل – في وارد تدويل الرنمينبي كعملة احتياطية أجنبية، بقدر ما هي مهتمة فقط بنشر عملتها في الحيز العالمي بمقدار محسوب من أجل تسهيل شراء المنتجات الصينية في أي وقت، وذلك على الرغم من تأكيد بوني تشان ييتينج، الرئيسة التنفيذية لبورصة هونغ كونغ، بأن المشروع سيوفر «منصة لطموح بكين في تدويل الرنمينبي، من خلال تعميق استخدام العملة كأصل احتياطي عالمي ولتسوية الصفقات، وتعزيز تطوير سوق الدخل الثابت في هونغ كونغ، ما يتيح الانتقال للمرحلة الثانية من تدويل الرنمينبي ويعزز مكانة هونغ كونغ كمركز مالي عالمي». وتهدف مذكرة التفاهم الموقعة بين بورصة هونغ كونغ وهيئة النقد فيها إلى تحويل وحدة أسواق المال المركزية التابعة لهيئة النقد في هونغ كونغ، والتي تتولى تسوية الديون، إلى دار أوراق مالية دولية يمكنها التعامل مع المدفوعات، عبر الحدود والعملات المختلفة. سيتمكن المستثمرون الأجانب من إدارة سيولة السندات المقومة بالرنمينبي، والاحتفاظ بأصول عالمية تتولى مسؤولية الحفاظ عليها سلطة هونغ كونغ.
* خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية