«أصوات من الأعماق».. الانتظار أساس المتعة البصرية

الشارقة: علاء الدين محمود
برزت بعض الأعمال المسرحية الإماراتية لكونها قد فارقت السائد في طريقة العروض، وعبرت عن لحظة ابتكار خاصة، ولعل المتابع للحراك المسرحي في الدولة يلاحظ ذلك الشغف من قبل الفنانين بالجديد ومفارقة الأساليب التقليدية عبر التجريب والانفتاح على تيارات جديدة في الفعل الدرامي.
مسرحية «صرخات من الهاوية»، لجمعية كلباء للفنون الشعبية والمسرح، تأليف عبدالله إسماعيل عبدالله، وإخراج: عبد الرحمن الملا، حملت ذلك الجديد الذي أشرنا إليه، عبر جملة من الأساليب التي صنعت حالة من المراوغة الإبداعية من قبل المخرج للنص المعد، فكان أن نجح في صناعة نص خاص، كما أن الفكرة نفسها كانت عجيبة وغريبة وربما كان لتلك الغرائبية السر في نجاح العمل الذي اتسم بالفعل بالتميز والألق، فهو ينفتح على العديد من القضايا ويحمل في طياته الكثير من الرسائل بطريقة غير مباشرة، فالعمل يحمل أبعاداً إنسانية تناقش الخطأ والصواب، ويثير الكثير من الأسئلة التي تظل تتناسل طوال العرض دون انتظار إجابة ما، ولعل تلك هي الفجوة المقصودة من قبل المخرج، والتي يملؤها المتفرج مستعيناً بالرموز والإشارات والعلامات النصية.
نص المسرحية أبرز المقدرات الكتابية الكبيرة عند عبدالله إسماعيل، خاصة تلك اللغة الشاعرية والجمل البلاغية التي شيّد عبرها المؤلف صوراً ومشهديات، إضافة إلى أهمية القضية التي يعالجها؛ حيث احتشد النص بالمقولات والأفكار والرؤى التي تناقش قضية اجتماعية تحمل العديد من الدلالات وتشير إلى حجم المتغيرات في الحياة المعاصرة الحديثة.
صراع
حكاية النص تتحدث عن الأسرار، وكيف أن الحياة تكون شديدة القسوة في ظل الانغلاق والقلق والتوتر بفعل ما تحمله القلوب من أشياء لا تريد أن تفصح عنها، ولئن كانت القلوب هي سجن الأسرار، فإن هذه النفوس التي تحملها تظل مقيمة في حالة من البؤس الشديد، وهنا يظهر اتجاه المسرحية نحو فكرة الصراع المعتمل داخل النفوس، والذي ينتقل إلى خارج النفس ليصبح بين الأنا والآخر، ما يزيد من معاناة أبطال الحكاية.
ينفتح العرض على قصة علاقة بين رجل متزوج وله ابن من امرأة أخرى، ولم يكن هذا الرجل يدري شيئاً عن أن زوجته الأولى تلك التي اقترن بها في ظروف معينة وانفصل عنها قد حملت منه، وعندما علم بذلك طلب منها أن تتخلص من الجنين، غير أنها لم تفعل ذلك ولجأت إلى صديقتها وزوجها اللذين استضافا المرأة حتى لحظة ولادتها، لكنها تموت بعد أن تنجب طفلة، وتقوم صديقة المرأة المتوفاة وزوجها بوضع هذه الطفلة أمام بيت والدها الحقيقي، والذي يقوم بتبنيها دون أن يعلم من هي لتكبر في منزله مع ابنه الآخر إلى أن وقع المحظور عندما جمعت مشاعر الحب بين الأخ وأخته، فكان لابد من لحظة إفشاء السر، من قبل الصديقة وزوجها.
اشتغالات إخراجية
تلك القصة تمت معالجتها من قبل المؤلف بصورة أقرب إلى الملحمية من حيث الحوارات المؤثرة واللغة الشاعرية، والأفكار الفلسفية، وهو الأمر الذي جعل المخرج عبد الرحمن الملا في حالة تحدٍّ، فكان أن لجأ إلى جملة من الاشتغالات التي راوغت النص، ولعل من أهم تلك التقنيات التي وظفها المخرج هي أن وضع بداية مقلوبة للقصة، فالأحداث كانت تسير وفق خط زمني معكوس منذ النهاية وحتى البداية، وربما لجأ المخرج إلى تلك الفكرة الذكية لمغايرة النص الذي برز كحالة جمالية متكاملة، حيث تمثل الملا الأفكار الرئيسية للنص ونجح في التعبير عنها بطريقته الإبداعية الخاصة.
غرائب
العرض جاء أشبه بالواقعية السحرية من حيث الحالة العجائبية التي لازمته والتي كانت مسؤولة عن خلق علاقة مميزة مع الجمهور الذي يعشق الغرائبيات، فكانت المتعة حاضرة مع تجوال الأشباح في الخشبة وتلك الأصوات التي تصدر من مكان سحيق معبرة عن فكرة الهاوية التي وردت في عنوان العمل مع توظيف لافت للمؤثرات الصوتية، بحيث يتسرب الترقب إلى قلوب المشاهدين، إضافة إلى الحوارات التي بدت غريبة ومبهمة في بعض اللحظات، إلا أن أسرارها تتكشف مع مرور الوقت.
ولعل تلك الخطة الإخراجية التي لجأ إليها المخرج في قلب الحكاية زمنياً، جعلت الحضور في حالة من التوهان، بحيث تتفجر أمامه الأسئلة عن: ما الذي يجري؟ وماذا هناك؟ إلى أن يتلقى الخطوط المبعثرة من القصة، ولعل تلك حيلة تحترم عقل المشاهد كثيراً، وتحرّضه على التفكير والتأمل، ليس حول مسار الأحداث فقط، بل والمصائر، فالحكاية نفسها مراوغة أراد بها الكاتب قصة معينة بينما هي تحمل العديد من الرموز التي من شأنها أن تجعل الحكاية تحمل أكثر من وجه، وذلك يتطلب التأويل والتفسير من قبل المتلقي.
عرض هذا العمل خلال الدورة الأخيرة الـ«34»، من مهرجان «أيام الشارقة المسرحية»، وحصل على عدد من الجوائز مع إشادة واسعة من قبل النقاد بتلك الثنائية الرائعة بين الملا وعبدالله إسماعيل.