ثلاثة دروس مستفادة من ابن خلدون | محمد زاهر

ثلاثة دروس مستفادة من ابن خلدون | محمد زاهر

متعة لا حدود لها تلك التي يشعر بها القارئ لمقدمة ابن خلدون، فبرغم أنه يبحث أساساً في عوامل تأسيس الدول: قيامها وازدهارها، ومن ثم وصولها إلى الذروة ثم دخولها طور الأفول أو الانحطاط بعد ذلك، إلا أنه يتجول بنا في التاريخ والجغرافيا، يسير في الأسواق ويتلمس قوانينها، يتجول بين مختلف المهن ويتحدث عن خصائصها، ويرصد مظاهر التماسك في الدولة والقبيلة والعائلة، ويتطرق إلى اللون والعرق وارتباطه بالمزاج والسلوك وكأنه يضع اللمسات الأولى لعلم «الأنثربولوجيا». في حضرة ابن خلدون نحن لا نعرف على وجه الدقة أي علم يبحث، وهل هو مؤرخ أم رحالة أم واضع للخطط على نمط المقريزي، أم اقتصادي ثاقب البصيرة، هذا فضلاً عن آرائه في الأدب ونظرة شاملة لكل المعتقدات التي كانت سائدة في عصره.
برغم كل هذا الزخم والتنوع الذي تمتاز به مقدمة ابن خلدون إلا أنّ هناك رابطاً خفياً مميزاً يقيم صلة وصل بين كل تلك المفاصل والعلوم، رابط واضح يعبر عن علاقة نجح ابن خلدون في تأسيسها بين الإنسان والعالم، وبين البشر والمكان، يطلق عليها علم العمران، ويؤكد أنه لم يسبقه فيه أحد، وهو العلم الذي سيتطور بعد ذلك إلى علم الاجتماع، وسيحتفظ أيضاً بنفس الروح الخلدونية، فهو علم يبدو من الظاهر أنه يدرس كل شيء ويتقاطع مع مختلف العلوم الإنسانية إلّا أن هناك نكهة خاصة تميزه عن غيره من العلوم.
هذا هو درس ابن خلدون الأول، فتأمله في حال قيام الدول وتراجعها دفعه إلى أن يغامر ويقتحم مختلف آفاق المعرفة، لم يتوقف ويتردد في الحديث عن الأقاليم وتأثيرها في الإنسان وطباعه بحجة أن هذه الدراسة تتعلق بعلم الجغرافيا، ولم يسكت عن رصد الشعر وعلوم اللغة في علاقتها بالتحضر معتمداً على أن هذا الباب ينتمي إلى الأدب، ولذلك لا يمكن لنا نحن اليوم أن نقول مثلاً أن الأدب ينوب عن علم الاجتماع العربي، الضعيف تاريخياً والغائب في الراهن، في رصد تحولات مجتمعاتنا الراهنة، فوظيفة الأدب جمالية تعبيرية وذاتية في الوقت نفسه، ولا يمكن الركون إليه في بناء نتائج ومؤشرات تؤخذ في الاعتبار عند الدارسين وصناع القرار، ولذلك لابد أن نعمل جميعاً على أن يزدهر علم الاجتماع وأن تخرج دراساته من بطون المكتبات الأكاديمية وأن تنشر على الجمهور وأن نطوّر فيه دائماً بما يوافق حراك العصر المتسارع الذي نعيش فيه.
الدرس الثاني لابن خلدون يتمثل في أنه لم يضع هذا العلم للعالم العربي، صحيح أنه تحدث عن خصائص مميزة لعدد من الأمم، ومنهم العرب، ولكنه لم يقل إنه يؤسس لعلم عربي الدراسة والتوجه والمعنى والمبنى، وهو ما يؤكد ذلك التخبط الذي يقع فيه الكثيرون عندما يتحدثون عن علم الاجتماع ولا همّ لهم إلا انتقاد نزعة التغريب والمطالبة بتأسيس علم اجتماع عربي، فالعلوم بطبيعتها إنسانية كونية، هذا ينطبق على الآداب والفنون، ولم نسمع في أحد الأيام بمثقف هنا أو هناك يطالب بعلم اجتماع أو علم نفس صيني أو روسي، وما يدور في ثقافتنا حول هذه المسألة جدل فارغ لن ينتج شيئاً.
يتمثل الدرس الثالث لابن خلدون في زمنه المضطرب والتحولات التي عاشها على المستوى الفردي والمجتمعي، بمعنى أنه لم يجلس في برج عال، ويضع المراجع أمامه ويخرج بنتائجه، بل كان من المثقفين الذين اختلطت حياتهم بإنتاجهم النظري، في صورة عالجها البعض بشكل روائي، بمعنى أن التحولات الفارقة تفرض نفسها على المثقف والباحث وتقوده هي إلى النظر والتأمل، ولا تنتظره لكي يبحث عنها، ونحن نعيش في زمن يتميز بتحولاته الفارقة: ماذا عن الذكاء الاصطناعي وصدماته المتلاحقة، والعولمة بتغوّلها الواضح، ومعظم الشباب العربي الذي لا حلم لديه إلا الهجرة، ماذا عن البلبلة اللغوية التي نعانيها، وعن الأجيال الجديدة التي تحمل نظرة مغايرة تماماً للعالم، ماذا عن تبدل القيم وتأثيرها على الأسرة…الخ.
لم تعد الأفكار ملقاة على قارعة الطريق كما قال الجاحظ يوماً ولكنها أصبحت تدعو المتأمل لكي يبحث ويدرس ويتدبر، أفكار تتكلم بلسان فصيح وتقول نيابة عنا:علم الاجتماع ضرورة قصوى ولو لم يكن موجوداً فعلينا اختراعه.

[email protected]