النهضة والمبادرة الحضارية العربية: الاقتصاد الإسلامي | حسن إبراهيم العيسى النعيمي

* الحاجة إلى بديل اقتصادي إنساني:
بينما يعاني العالم اليوم، وطأة الأزمات الاقتصادية والمالية المتكررة، وتفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتصاعد الاضطرابات البيئية والمجتمعية، تبدو الحاجة أكثر إلحاحاً إلى نظام اقتصادي بديل يتسم بالعدالة والتوازن والاستدامة. لقد أدى النظام الرأسمالي، القائم على الربح الأقصى وتراكم الثروة، إلى تشويه العلاقة بين الإنسان والمال، وتكريس منطق الاستهلاك والجشع على حساب القيم الإنسانية والمجتمعية والبيئية.
في هذا السياق، يأتي الاقتصاد الإسلامي لا كخيار ديني صرف، بل كمنظومة اقتصادية متكاملة تجمع بين الفاعلية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وتسعى إلى تحقيق التوازن بين مصلحة الفرد والمجتمع، وبين الإنتاج والتوزيع، وبين الثروة والمسؤولية.
* أولاً: تعريف الاقتصاد الإسلامي ومنهجيته
الاقتصاد الإسلامي ليس مجرد اجتناب للربا أو تطبيق لبعض المعاملات الشرعية، بل هو نظام فكري وسلوكي ومؤسسي ينبثق من رؤية قرآنية للمال والعمل والعدالة والعمران، تقوم على المبادئ الآتية:
• المال مال الله والإنسان مستخلف فيه، أي أن المال ليس ملكاً مطلقاً للفرد، بل أمانة ومسؤولية.
• تحقيق العدالة الاجتماعية: من خلال منع الاحتكار والربا والاستغلال، وفرض الزكاة والصدقات، وتشجيع الوقف والتكافل.
• تشجيع الإنتاج الحقيقي: وربط الكسب بالعمل والمخاطرة، لا بالمضاربات أو الفوائد الربوية.
• دور الدولة في التنظيم والتوازن: دون أن تكون دولة مركزية متسلّطة، بل راعية ومحفزة.
* ثانياً: الفروق الجوهرية بين الاقتصاد الإسلامي والرأسمالي
إن التباين بين الاقتصاد الإسلامي والرأسمالي لا يقتصر على المظاهر، بل يمتد إلى جوهر الرؤية الفلسفية والعملية للإنسان والمال والمجتمع. ففي حين تقوم الرأسمالية على الملكية الفردية المطلقة التي تمنح الفرد الحق في التملك والاكتناز من دون حدود، يؤمن الاقتصاد الإسلامي بالملكية الفردية المقيدة، حيث يُنظر إلى المال على أنه أمانة يجب أن توظَّف في الخير العام، مع الحفاظ على حرية التملك المشروعة.
كما تختلف المنظومتان في منهج تحقيق الأرباح، ففي الرأسمالية يُسمح بالربا والفائدة، وتُعطى الأولوية لتعظيم الربح بأي وسيلة، بما في ذلك المضاربات المالية والأنشطة غير الإنتاجية.
أما الاقتصاد الإسلامي، فيرفض الربا ويحرّم الكسب غير المشروع، ويربط الأرباح بالعمل والمخاطرة المشروعة، ويشجع الأنشطة الإنتاجية التي تخلق قيمة مضافة حقيقية.
وتختلف النظرتان أيضاً في دور الدولة، إذ تميل الرأسمالية إلى تقليص تدخل الدولة إلى حده الأدنى، وتعتبر السوق هو الحَكم الوحيد. بينما يدعو الاقتصاد الإسلامي إلى دور متوازن للدولة، بوصفها راعية للعدالة الاجتماعية، وضامنة لتكافؤ الفرص، ومراقبة لحسن سير السوق، من دون أن تكون متغوّلة أو مركزية.
وبينما تُترك عملية توزيع الثروة في الرأسمالية للسوق وحده، ولو أدى ذلك إلى احتكار أو حرمان، يصرّ الاقتصاد الإسلامي على أن التوزيع العادل مبدأ أصيل، يجب أن تدعمه أدوات تشريعية واقتصادية كفيلة بتحقيق التوازن بين الطبقات، وضمان الكرامة الإنسانية لكل فرد.
{ثالثاً: توحش الرأسمالية ومعاناة البشرية
لم يكن النظام الرأسمالي في جوهره إلا تجسيداً لفكرة السوق الحر المنفلت من كل ضابط أخلاقي أو إنساني. ومع تحرره من القيم، بدأ يتحول إلى آلة ضخمة تطحن الإنسان والطبيعة على السواء. ومن أبرز تجليات ذلك:
• الأزمات المالية المتكررة: كما حدث في أزمة 1929 وأزمة 2008، حيث انفجرت فقاعة المضاربات والقروض الربوية، تاركة ملايين العائلات في الفقر والتشرد.
• اللامساواة الفاحشة: حيث يمتلك 1% من سكان الأرض أكثر من 50% من ثرواتها.
• استنزاف البيئة: بتحويل الطبيعة إلى مجرد مورد للاستغلال من دون اعتبار لحقوق الأجيال القادمة.
• الضغط النفسي والاجتماعي: حيث ترتفع معدلات القلق والانتحار والإدمان في المجتمعات الرأسمالية، بسبب التنافس المفرط وتآكل الروابط الاجتماعية.
• الأزمات البيولوجية: كما ظهر في تفشي الأمراض المرتبطة بالأنظمة الغذائية والبيئية الرأسمالية، أو في تحوّل الشركات الكبرى إلى مراكز لتجارب جينية خطِرة.
*رابعاً: الاقتصاد الإسلامي كنموذج للنهضة والاستقرار
لا يُطرح الاقتصاد الإسلامي كحلم طوباوي أو مثالي بعيد المنال، بل كخيار واقعي يدمج بين الأخلاق والفاعلية. ومن أبرز ملامح إسهامه الحضاري:
• تحقيق التوازن بين الغنى والفقر: من خلال الزكاة والوقف والتكافل.
• تشجيع المشاريع الإنتاجية الفعلية: لا المضاربات الوهمية.
• إحياء أخلاقيات السوق: كالصدق، والأمانة، والشفافية.
• دور فاعل للدولة الرشيدة: لا كخصم للمجتمع، بل كشريك في التنمية.
• الاستثمار في الإنسان لا رأس المال فقط: باعتباره محور التنمية وغايتها.
* خامساً: العرب وبناء النموذج الإسلامي الاقتصادي:
مشروع العرب الحضاري لا يمكن أن يكتمل دون إحياء الشق الاقتصادي منه، عبر تقديم نموذج إسلامي معاصر يزاوج بين روح الإسلام ومقتضيات العصر. وهذا يتطلب:
• إنشاء مؤسسات اقتصادية إسلامية إقليمية.
• بناء إطار تشريعي موحّد للاقتصاد الإسلامي في العالم العربي.
• دعم الابتكار المالي الإسلامي.
• تطوير نظام تكافلي شامل.
• إدماج البُعد البيئي في فلسفة الاقتصاد.
{خاتمة: الاقتصاد الإسلامي.. من طموح عربي إلى أمل إنساني
الاقتصاد الإسلامي ليس حكراً على المسلمين، بل هو دعوة لكل البشر لإعادة النظر في علاقة الإنسان بالمال والقيمة والإنتاج. هو اقتصاد الإنسان لا اقتصاد المال. مشروع العرب الحضاري لا يمكن أن ينفصل عن هذا الرصيد الروحي العظيم، الذي آن أوان بعثه كنظام عالمي بديل يحرر البشرية من توحش الرأسمالية ويقودها نحو العدالة والاستقرار والكرامة.