« كما ذكر الراوي ».. الكتاب رفيق العمر

« كما ذكر الراوي ».. الكتاب رفيق العمر

الكتب والقراءة تمثلان نافذة رئيسية تفتح للإنسان آفاقاً رحبة لأفكار متجددة وتجارب حياة متنوعة وتأملات عميقة. لا تقتصر القراءة على كونها وسيلة لجمع المعلومات والمعرفة فقط، بل تتجاوز ذلك لتصبح رحلة استكشاف دائمة للذات والعالم، تنشط ملكات الفكر، وتوسع الأفق، وتحرر الإنسان من قيود الذات ومن جمود النظرة المحدودة، من خلال القراءة، يتراوح القارئ بين حكايات الآخرين ووقائعهم النفسية والاجتماعية، فيغوص في رحلات ذهنية وروحية تغني وعيه، وتلهم خياله، وتثري تجربته الإنسانية.

في هذا الإطار، يطل كتاب «قال الراوي: تأملات واستنباطات وحالات تأثر» للكاتب علي عبيد الهاملي، الصادر في 2024 كمنهل غني من التجارب القرائية والتأملية التي تعكس حواراً عميقاً مع النص والأفكار، ويقدم الكتاب مزيجاً بين التأمل الفلسفي والنقد الفكري، عبر مجموعة من النصوص والاقتباسات التي استقاها المؤلف من تراث أدبي وثقافي متنوع، مزيلاً الغبار عن العلاقة التقليدية بين القارئ والنص، وجاعلاً منها فعل اعتراف ذاتي يستنهض الذاكرة والحس النقدي.
الكتاب في روحه هو امتداد لبعض التجارب العالمية التي جسدها كولن ويلسون وهنري ميلر في كتابيهما «الكتب في حياتي»، حيث يكون الكتاب رفيق حياة وبوابة دائمة لإعادة صياغة الهوية الفكرية والنفسية، ويكشف الهاملي كيف أن القراءة هي لب بناء الإنسان وحجر الزاوية في تطوره الفكري والأخلاقي.

محطات

يتوقف الكتاب عند عدد من المحطات القرائية التي مرّ بها الهاملي، بداية من تجاربه الطفولية مع القصص الشعبية والسير البطولية، مروراً بالقراءات في الأدب العربي والعالمي، حيث يعنى بسرد التأثيرات التي تتركها تلك القراءات عليه وعلى القارئ، يصف اللحظات الأولى في لقاء النص، والمشاعر والأفكار التي تنفتح معها مساحات جديدة على العالم، هذا التنقل بين محطات الزمن والمكان يُظهر كيف أن القراءة هي تجميع متواصل لقطع فسيفسائية تتشكل منها ذات القارئ المتحولة والمتسائلة.
يُبرز الكتاب أن المؤلف لا يقرأ الكتب بمعزل عن سياق حياته وتجربته الشخصية، فلكل عمل أدبي أو فكري أثر باقٍ في وجدانه، ينعكس على طريقة تفكيره ونظرته، فبدلاً من تقديم ملخصات تقليدية أو شرح موضوعي، يأخذنا الهاملي في رحلة استبطان ذاتي، يتأمل فيها كيف أثرت فيه عوالم روايات مثل «لمن تقرع الأجراس» لآرنست همنغواي، أو كيف جسدت تأملات باولو كويلو عوالم الروح والبحث عن الخلاص، وكيف نمت رؤيته على ضوء قراءاته لسير بنازير بوتو.
يقول الهاملي: «ومن منا لم يتعلم السرد من أمه يا مها؟»، في إشارة للكاتبة السورية مها حسين، مؤلفة رواية «مترو حلب»، والتي كتبت في إهداء روايتها إلى أمها «إلى أمي، ومعلمتي في السرد، ومعلمتي في اختيار النهايات… أكتب هذه الرواية».
وتحت عنوان الرحيل إلى المدن القديمة، يقول: «الرحيل إلى المدن القديمة رغبة تتنامى لدى البشر كلما أوغلو في العمر، رغم الرفاهية التي تمتاز بها المدن الحديثة، وهو حنين لن يختفي من حياتنا»، وذلك في ختام استعراضه لرواية «الإسكندرية في غيمة»، للروائي إبراهيم عبد الحميد.
هذا الأسلوب يحول القراءة من فعل يصوغ من خلاله القارئ وجوده وهويته، فالكتاب يصبح مساحة اعتراف واكتمال، يحكي قصة علاقة دائمة ومتجددة بين الذات والنصوص، ويرصد لحظات التأثر والانكسار الفكري والوجداني التي تغير القناعات والمواقف، كل نصّ يتحول إلى حجر أساسي في بناء الفكر والوجدان، محفزاً على إعادة النظر والتأمل.

قيم إنسانية

ينتقل الكتاب إلى تحليل جزئي لبعض الأعمال الأدبية والفكرية البارزة، منها روايات عربية وعالمية، كـ«العمى» لساراماغو، و«ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» لغابرييل غارسيا ماركيز، و«عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، إضافة إلى نصوص هاروكي موراكامي ونجيب محفوظ، مع معالجة موضوعات مثل العدالة، الحرية، الندم، ويتفحص كيف توظف هذه النصوص مفاهيم متشابكة، تلقي بظلالها على القارئ العربي في بيئة اليوم، فتغير من وعيه وتدفعه لمساءلة الأوضاع الحياتية والاجتماعية.
ومن خلال الربط ما بين القراءة والواقع اليومي، يعرض المؤلف القراءة كأداة إبداعية وعلاجية تخارج القارئ من نفسه إلى أفق أوسع، حيث يصبح النص الأدبي منارة لفهم الذات، وصياغة مواقف مرتبطة بالمصير والنجاح والاغتراب، فالقراءة فعل اجتماعي ينقل الإنسان من فردانية ضيقة إلى وعي جماعي وأخلاقي؛ لأنها تلامس القيم الكبرى في حياته والمحبة والعدل والتسامح والصدق.
يتسم أسلوب الهاملي بالوضوح والبساطة، ينقل التجربة القرائية بروح الصحافة الثقافية الأدبية، بعيداً عن جفاف الخطاب الأكاديمي أو التكثيف النظري المعقد، من دون مبالغة أو تسطيح تتسلسل النصوص بسلاسة بين الذكريات والتجارب النقدية، ما يغني القراءة ويجعلها في متناول مختلف القراءات، محترفين وهواة كما يحافظ الكاتب على توازن بين السرد العاطفي والتأمل العقلي، ما يضفي على النص أثراً صادقاً وشفافاً.

حس عميق

اللغة السردية تأخذ القارئ إلى رحلة عميقة بين لحظات الطفولة الأولى التي استقبل عندها الكتاب كرفيق، وإلحاح التساؤلات الإنسانية الكبرى، إلى تحليل النصوص وتفسيرها بشكل قابل للنقاش المفتوح والحوار الاجتماعي بروح محلية تتلاقى مع إنسانية كونية.
يقدم الهاملي تجربة شخصية ومستفيضة من العمل الثقافي المحلي، من نبض الهوية الإماراتية وتأثير الفعاليات الثقافية العالمية، لكنه يظل مشدوداً إلى الأسرة الإنسانية ككل، هذا التوازن بين المحلي والعالمي، بين التحديات الخاصة والقضايا الكونية، يضفي على العمل عمقاً ويجعله نموذجاً ناضجاً في الأدب العربي المعاصر.