هل آن الأوان للتحديث؟ دروس عالمية يمكن للإمارات الاستفادة منها في تقليل أضرار التبغ

هل آن الأوان للتحديث؟ دروس عالمية يمكن للإمارات الاستفادة منها في تقليل أضرار التبغ

أتيحت لي الفرصة لحضور منتدى النيكوتين العالمي (GFN 2025) الذي عُقد مؤخراً في مدينة وارسو وذلك لحرصي كطبيب أسرة على متابعة كل جديد بالطب والاستفادة منها لخدمة مرضاي ومشاركتي المعلومات الطبية مع زملائي الأطباء. شهدت بنفسي المناقشات العلمية، بين المتحدثين و المشاركين و الذين أتوا من كل بقاع العالم لحضور المنتدى، عن مدى أهمية تطوير السياسات الصحية العامة و تحسين مستوياتها بما يتماشى مع احتياجات مجتمعاتنا المتغيرة. ويظهر ذلك بشكل واضح في النقاشات المستمرة الدائرة حول النيكوتين والحد من أضرار التبغ. وكان هذا المنتدى فرصة مهمة إذ جمع تحت مظلته خبراء من جميع أنحاء العالم لتسريع عملية استكشاف كيفية تطور العلوم وسياسات الرعاية الصحية وطرق التواصل. 
وإذ يبقى همنا الشاغل هو السيطرة على التدخين في مجتمعاتنا عن طريق منع انتشار عادة التدخين في النشء الجديد بالمقام الأول ومساعدة المدخنين على الإقلاع عن التدخين بكافة الطرق الممكنة بالمقام الثاني. ولكن يبقى فئة من المدخنين غير القادرين ولا يريدون الإقلاع وممن فشلوا في لإقلاع سابقاً. وهنا ينتابني شعور بالذنب عند كتم و التغاضي عن حقائق علميه وتجارب دول عن هذه الفئة بينما بالإمكان تخفيف نسب الإصابة بأمراض القلب والشرايين و السرطان.
من هنا ابتدأ البحث عن بدائل لتدخين السجائر العادية والاتجاه نحو الاستفادة من التكنولوجية الحديثة عن طريق تسخين التبغ (بدرجات حرارة أقل) بدل حرقه (بدرجات حرارة عالية) وتخفيف وطأة العوارض الناتجة عن انخفاض مستويات المركبات الكيميائية بطرق جديدة وفاعله لاستهلاك النيكوتين وذلك عن طريق الفم او استنشاقه. أن التكنولوجيا الحديثة من تسخين التبغ أثبتت تقليل المواد المنبعثة من السموم بالمقارنة بإشعال التبغ بالسيجارة العادية وبالتالي يقلل مضارها نسبياً. 
تستمر حكومات العديد من الدول في التعامل بحذر مع النيكوتين دون تمييزه عن عملية التدخين. لكن ذلك يشكل التباساً خطيراً للموضوع من شأنه التأثير على جهود هذه الحكومات والهيئات الصحية فيها. وعلى الرغم من أننا نتفق جميعاً على أن النيكوتين يسبب الإدمان وغير خال من المخاطر، إلا أنه يعتبر ذات مستويات مخاطر منخفضة عند مقارنته بالتدخين. والمعروف أن النيكوتين يستخدم في الإقلاع عن التدخين منذ عام 1990 ان كان عن طريق مضغ علكة النيكوتين او حبوب الإستحلاب أو الرش او اللصقات. إن الضرر الحقيقي في التبغ يأتي بالفعل من عملية الاحتراق نفسها والمركبات الكيميائية الموجودة في الدخان الصادر عنه. إذ يحتوي دخان السجائر على آلاف المواد الكيميائية السامة، العديد منها مسرطنة. وعلى العكس من ذلك لا يُصنف النيكوتين كمادة مسرطنة من قبل الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IARC) أو هيئة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA)  أو خدمة الصحة الوطنية البريطانية (NHS). وإن هذا التصنيف ليس مجرد تصنيف أكاديمي وحسب إنما هو أمر أساسي لتشكيل وتبني سياسات وبرامج فعالة في مجال الصحة العامة.
تقدم نيوزيلندا مثالاً قوياً وواضحاً على ما يمكن إنجازه عندما تسترشد السياسات الصحية بالأدلة العلمية المثبتة بدلاً من التمسك بالمفاهيم الشائعة وتبنيها. وفي هذا الإطار ناقش منتدى النيكوتين العالمي 2025 دراسة طويلة المدى قامت بمتابعة حالة العديد من البالغين في نيوزيلندا ممن انتقلوا من التدخين إلى استخدام السجائر الإلكترونية (معرفة باسم الفيب) على مدى أربع سنوات، وكانت النتائج واضحة: بالرغم من الاختلاف في بعض الحالات، إلا أن النتائج أظهرت أن السجائر الإلكترونية شكلت مخرجاً مستداماً من التدخين وقابلاً للتطبيق. ويجب أن تستند استراتيجياتنا إلى هذا النوع من البيانات الواقعية طويلة المدى.
إن النجاح الذي حققته نيوزيلندا لم يحدث بالصدفة. بل كان نتيجة لتنظيم علمي مدروس يدعم البدائل الأقل ضرراً، مع التركيز على حماية المستهلكين. كما اتبعت هذا النهج دولاً أخرى مثل اليابان والنرويج والمملكة المتحدة، إذ قامت باتخاذ مسارات مماثلة، وشهدت جميع تلك الدول انخفاض متسارع في معدلات التدخين. هذه ليست مجرد دراسات حالة استعرضها أمامكم إنما هي خرائط طرق يمكن اتباعها لتحقيق نتائج مماثلة. 
يعود تحقيق السويد مؤخرًا لحالة “خالية من التدخين”، إلى حد كبير إلى استخدام منتجات النيكوتين الفموية بما فيها السنوس (أكياس التبغ) أو أكياس النيكوتين، الأمر الذي يؤكد أهمية طرح تبني البدائل الخالية من الدخان. ولا يمكن أن يؤدي مفهوم الحد من الضرر دوره المنشود إلا عندما يتم تبنيه. إن الانخفاض الكبير في الأمراض والوفيات المرتبطة بالتدخين في السويد لم يأت على سبيل الصدفة، بل كان نتيجة أتاحة البدائل الأقل ضرراً للبالغين الذين يستمرون في التدخين، ووفرت لهم الخيار في اتخاذ قرار أفضل لصحتهم ومستقبلهم. 
خلال حضوري فعاليات منتدى النيكوتين العالمي شاركت في ورشة عمل باستخدام منهج دلفي — وهو أسلوب لبناء التوافق بين الخبراء. كانت الرسالة واضحة: نحن بحاجة إلى حوار منظم ومستند إلى الأدلة للمضي قدماً. الأدلة العلمية متاحة والنماذج الناجحة قائمة تشهد بفعاليتها. وما نحتاجه اليوم هو الإرادة لاتخاذ خطوات جديدة في الاتجاه الصحيح. وعليه فإنني أدعو الخبراء الأخصائيين المعنيين بموضوع التدخين بالدولة للمشاركة في النقاش و التوافق على توصيات في ضوء الأدلة العلمية وتجارب الدول في مختلف بقاع العالم مما يؤهلنا الى رفع توصيات مدعمه بالأدلة الى الهيئات الصحية. 
وفي الختام، لم يكن المؤتمر برأيي مجرّد فعالية عابرة، بل كان جرس إنذار يستدعي يقظة جماعية. فإذا أردنا فعلاً الحد من الأضرار المرتبطة بالتدخين في منطقة الشرق الأوسط، فلا بد من مراجعة جذرية لنهجنا الحالي والعمل على تطويره. ويقتضي ذلك إعادة صياغة رسائلنا العامة بحيث نمكن العاملين في القطاع الصحي بمعلومات وأدلة علمية دقيقة وموثوقة، واستلهام نتائج التجارب الرائدة من الدول التي سبقتنا في هذا المضمار.