الاعتماد والاعتماد المتبادل | عبد الإله بلقزيز

عبد الإله بلقزيز
التّبعيّة نوعان: تبعيّة التّابع لسيّد متبوع، وتبعيّة أندادٍ لبعضهم بعضاً. ليس من هامشِ استقلالٍ للتّابع في الحال الأولى، لأنّه مصادَر الإرادةِ من غيره الذي يَستتبعه ويُلْحِقه به، أمّا في الحال الثّانيّة فتكون التّبعيّة متبادَلة لا فعلاً إلحاقيّاً من جانبٍ واحدٍ هو جانبُ السّيّد القويّ أو الحاكم، وتكون الحاجةُ إليها ماسّة من طرفيْ العلاقة فيها حتّى وإنْ تفاوتتِ الأحجامُ والأنصبة.
تنتمي التّبعيّةُ التي من المعنى الأوّل إلى نصابٍ هو نصاب انعدامِ الاستقلال أو نصاب ما قبل الاستقلال، حيث الواقعُ فيها (أَكَانَ دولةً أو اقتصاداً…) لا يملك نظاماً مستقلاًّ بذاته عمّن يفرض عليه الاستتباع ويشُدُّه إليه بروابط الإخضاع. أمّا في معناها الثّاني فتنهض التّبعيّة المتبادلة على قاعدة استقلالٍ ناجزٍ لكيانات أطرافها الذين دعتْهم الحاجة إلى هذا النّوع من العلاقة التي لا يُذْهِب قيامها استقلال أيّ منهم بمقدار ما يزداد بها ذلك الاستقلالُ قوّةً ومتانة.
وما من شكٍّ في أنّ التّمييز بين هذين الضّربيْن من علاقة التّبعيّة ضروريّ لبيان الفارق بينهما، من جهة، ولفهم الأسباب التي تفرض، من جهةٍ ثانيّة، اللّجوء إلى تبعيّةٍ مّا لجوءاً اختيارياً لا من باب الاضطرار والاِنْكراه على ذلك: كما في حالة التّبعيّة المرادفة لفقدان الاستقلال الوطنيّ.
إذا كان للتّبعيّة، في معناها الأوّل، أسبابٌ تفرضها على الواقعة عليه (الإخضاعُ الأجنبيّ، ثقل المواريث الكولونياليّة، فقدان الاستقلال…)، فإنّ للتّبعيّة المتبادَلة بين طرفيْن أو أكثر ما يبرِّرها ويُملي الحاجة إليها حتّى مع وجود حالٍ من الاستقلال لدى قواها في الميادين الإنتاجيّة والاقتصاديّة.
قبل مئة عامٍ خلت، كان في وسْع أقوى البلدان والاقتصادات والبِنى الإنتاجيّة أن توفّر كفايتَها الذّاتيّة من الحاجات وأن تستغنيَ، بالتّالي، عن غيرها وتضمن استقلالَها الكامل. كان ذلك ممكناً قبل أن تتداخل اقتصادات العالم، بعد الحرب العالميّة الأولى، وتندفع عمليّة الإنتاج نحو مزيدٍ من التّخصّص الذي ساعد عليه التّقدُّم الحثيث في تثوير النّظام الصّناعيّ بالفتوحات التّقنيّة الجديدة، ومراكمة الخبرة الفنّيّة في مجالاتٍ صناعيّة وزراعيّة بعينها. على أنّ العامل الحاسم في هذا كلّه هو انتقال رؤوس الأموال من مَواطنها الأصل نازحة نحو فضاءات الرّبح في العالم في امتداد نشوء شركات ومجموعات استثماريّة عابرة للقوميّات. في هذا المناخ ستنشأ المصالح المتبادَلة بين الدّول والأمم على نحوٍ غيرِ قابلٍ للفكِّ أو للنّقض، وستُولَد من ذلك قيمٌ ومعايير جديدة في العلاقة بين الدّول والبلدان وبنى الإنتاج فيها، من قبيل: الشّراكة، والتّعاون، والتّكامل مروراً بما بات يعرَف – في الأدب الاقتصاديّ – باسم الاعتماد المتبادَل: تخفيفاً من وطأة عبارة التّبعيّة المتبادَلَة.
هذا، إذن، وجهٌ جديد من التّبعيّة المتبادَلَة التي ما عاد من مهربٍ منها لمجتمعٍ أو دولةٍ في عالم اليوم بعد أن حَمَل عليها التّطوُّر الاقتصاديّ العالميّ – ومنه انفتاحُ الاقتصادات والأسواق على بعضها- وسياساتُ الأولويّات في الإنتاج وما تقدّمه من فُرصٍ لتعظيم المصالح والأرباح.
ليس من شكٍّ في أنّ هذا المسار الجديد من التّبعيّة لم يضع حدّاً نهائيّاً للتّبعيّة في معناها الأوّل المألوف، لكنّه يسائل – على الأقلّ- مفهوم الاستقلال الاقتصاديّ الذي شدّدت عليه نظريّة التّبعيّة طويلاً بوصفه نقضاً لظاهرة التّبعيّة ويعيد فحص فرضيّته. ولدينا، في المعرض هذا، ملاحظتان:
*أولاهما، أنّ مفهوم الاستقلال الاقتصاديّ مفهوم نسبيّ، إلى حدٍّ بعيد، ولا يدُلّ على حالٍ من الاكتفاء الكلّيّ كما كان يُنْظَر إليه في بعض الأدب الفكريّ الحديث والمعاصر. لقد كانت طفرةُ النّظام الرّأسماليّ في طوره الإمپرياليّ دليلاً أوّليّاً على عُسْر نصْب الحدود بين البلدان واقتصاداتها. ولكن بعد أن تعمَّم هذا النّظام – عقب زوال النّظام الاشتراكيّ – ونشأتِ العولمة وغَزَتِ العالم كلَّه استكمل الدّليلُ شرائط صدقيّته، فما عاد يسيراً فهمُ الاستقلال ذاك إلاّ بما هو استقلالٌ نسبيّ، على ما تؤكِّد ذلك ظاهرة التّبعيّة المتبادَلَة.
* ثانيهما، أن التّبعيّة المتبادَلَة لا تكون أو يمتكن أمرُها إلا بين دولٍ واقتصاداتٍ نِدّيّة ومستقلّة، حيث العلاقةُ بينها ليست علاقةَ تابعٍ بمتبوع وعبْدٍ بسيّد وخاضعٍ بمسيطر، بل علاقة تَبادُلِ منافع وتبادلِ مصالحَ وحاجات بين اقتصادات مستقلّة: حتّى وإن كان استقلالُها نسبيّاً ومتفاوتاً. معنى هذا أنّ هذا الضّرب من التّبعيّة المتبادَلَة مستحيلُ القيام والوجود بين بلدانٍ (واقتصادات) تابعة وأخرى مسيطرة ومهيمنة، من جنس بلدان الجنوب – في معظمها الأعمّ – وبلدان الغرب. التّبعيّة الوحيدة التي تفترض نفسها، في هذه الحال، هي التي أشرنا إليها قبْلاً من حيث خضوعُ بنيات التّابع لبنيات المتبوع وانْحِكام الأولى بالثّانيّة، إنّها التّبعيّة في نسختها الرّثّة التي عرفتها البشريّة منذ زَحَفَ النّظام الرّأسماليّ على العالم وبَسَط سلطته…
[email protected]