أسرار البحر تروي قصصها من خلال الفن الإماراتي

تصدر البحر الكثير من النماذج التشكيلية الإماراتية منذ ما يزيد على أربعين عاماً، خاصة أن البحر هو أحد مرتكزات التنوع البيئي في الدولة إلى جانب البيئة الصحراوية والجبلية، ولكنه بكل تأكيد الأغزر في التناول الإبداعي التشكيلي بما يشكله الماء من مجال حيوي لهذا الإبداع بكل ما يمثله من مفردات فنية وجمالية، حتى قيل: إن التشكيل الإماراتي والبحر يمثلان وجهين لعملة واحدة في تاريخ الإمارات وثقافتها.
البحر جزء أساسي من الهوية الإماراتية، ولا يزال إلى الآن حاضراً بقوة في الملمح البصري والجمالي برغم تنوع التجارب الفنية وتطورها ما بين اللوحة المسندية وصولاً إلى التجارب المفاهيمية أو تلك التي تنتمي للفن المعاصر.
ومنذ البدايات، فقد ظهر البحر في الأعمال التشكيلية المحلية، من خلال ملامح إبداعية شتى، فبعض الفنانين استلهموا ما فيه من سفن وأشرعة وصيادين ومناظر بحرية خلابة، فظهرت أعمالهم تلك مزينة بألوان البحر في تحولاته ما بين الليل والنهار، وفي مده وجزره وصخبه وضجيجه وهدوئه، وبعضهم الآخر استوحى ما في هذا البحر من معان رمزية عميقة تتجاوز المعنى المباشر نحو ما يمثله الماء من تطهير وقوة لا محدودة تستكشف المعاني الرمزية والروحية للماء وهي كثيرة وعميقة.
*ملامح
شكل البحر نقطة انطلاق لكثير من الفنانين التشكيليين في الإمارات خاصة في تلك اللوحات التي تنتمي للمدرسة الواقعية، مروراً بالتعبيرية والتجريدية التي تميل إلى تصوير البحر بأشكال وألوان مختلفة، من دون التركيز على التفاصيل الدقيقة، حيث يعمد بعض الفنانين إلى استخدام الخطوط المنحنية أو الدوائر والمثلثات، وقد يظهر البحر في تصوير سيريالي وغير منطقي يشبه الأحلام، فيميل الفنان إلى استخدام عناصر غير متوقعة لخلق أجواء من الدهشة والغموض، ونجد ذلك كله حاضراً بقوة في أعمال عدد غير قليل من الفنانين الإماراتيين مثل: عبد القادر الريس، نجاة مكي، عبد الرحيم سالم، محمد مندي، عبيد سرور، إبراهيم العوضي، محمد القصاب، محمد يوسف.
إذن، نحن أمام سيرة تشكيلية متنوعة للبحر، مرتبطة إلى حد كبير بزمن ومكان وتبدلات ومنعطفات اجتماعية وتاريخية، كلها شكلت صورة بانورامية تستنطق البحر، في أحواله المختلفة، منذ أن كان فضاء يرسو على شواطئه الكثير من سفن الصيادين، ومنذ أن كان مصدراً للرزق، وتظهر على شواطئ رمله الفضي تلك الشمس الساطعة، التي تداعب لونه الأزرق المهيب، ذلك اللون الذي يتحول إلى درجات اللون البني في المغيب، فيظهر بوصفه سجلاً لحياة حافلة، و-ربما – تنطوي على صورة غير متوقعة، حين يزمجر البحر، فيلفظ المراكب ويقتلع مراسي السفن نحو مجاهيل الأعماق، وقد واصل الفنانون رسم البحر بصور شتى كشفت عن تلك التبدلات الزمانية والمكانية وكشفت عن كثير من البوح والتوتر في علاقة هؤلاء بالبحر، كما يظهر في إحدى لوحات عبد القادر الريس لسفينة عارية من الأشرعة ومن التفاصيل، فتظهر السفينة وقد احتلت مركز ثقل اللوحة في حلة لونية آسرة، ربما تكشف عن لواعج الحنين والتذكر.
هذا التحول الذي يبرز البحر في مراحل متتابعة من التعايش، نراه وقد التصق في تجارب أخرى بوصفه رمزاً لكثير من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وها هو يحمل مفردات أخرى ما بين شواطئه الذهبية وصورة النوارس على ضفافه المشرعة إلى صورة ملونة بالرمادي، حيث يتحول لونه الأزرق أو الأحمر الشفيف إلى لون آخر يهدد بالنذير والصراخ، وربما، كما يقول الفنان والناقد التشكيلي السوري طلال معلا: «يصرخ من خطر يهدد الحياة والنوارس والأسماك، حيث ذهبت ألوان اللوحة إلى مناطق جديدة».
*صخب
في واحدة من لوحات الفنان عبد الرحيم سالم، تظهر ملامح بحر يسرد قصة تعبيرية بأفكار مجردة وتصويرية، ومزيج من الألوان ما بين الأبيض والأسود الذي يحاكي حالة الفنان، هنا، يصور سالم البحر وفق فهم خاص يقترب من الحالة النفسية التي يعيشها، وقد تكون موسيقى بحرية تستحضر التراث وما فيه من أهازيج ومواويل تعبر الاشتياق والتذكر، البحر عند عبد الرحيم سالم هو تعبير عن صيغة جمالية وبصرية فيها الكثير من الحساسية الفنية التي تستدعي القراءة والتأمل.
في لوحة أخرى للفنان الإماراتي أحمد الفلاسي، ها هو يقوم برسم البحر في صورة سيريالية أو بصورة أقرب إلى الانطباعية التأثيرية، إذ يقوم بتدوين لحظة زمنية فيها الكثير من الرسائل التي تترجم مشاعره في تلك اللحظة، البحر عند أحمد الفلاسي يحمل دلالة بأبعاد فنية وجمالية فيها الكثير من العمق من الناحية الشكلية، ومن ناحية علاقته بالبحر، ما بين الهدوء والصخب الذي يستدعي كثيراً من مشاعر التذكر والحنين.
*تأمل
في سعي الفنانين الإماراتيين إلى سرد صورة البحر كذاكرة جمعية وفردية في الآن نفسه نعثر على كثير من اللوحات التي تحاكي تبدلات البحر في علاقته بالناس، وبوصفه -أي البحر- شاهداً على الحكاية وتلك الأقصوصة التي اندثرت ولكنها ما زالت حاضرة في تفاصيل ما يقدمه هذا الفنان من ذاكرة جمالية وبصرية تستحق التأمل.
كثيرة هي الأعمال الفنية الإماراتية التي قاربت صورة البحر في تجلياته المختلفة، ففي أحد اللقاءات السابقة مع الفنانة والناقدة هدى سيف، أكدت أن هناك العديد من الفنانين الذين تناولوا البحر بأكثر من مفهوم ومدرسة، وذلك راجع لثقافة الفنان وقدراته، ومدى فهمه لموضوع البحر ودلالاته النفسية وربما الاجتماعية.