التعليم العالي يتجاوز متطلبات سوق العمل | جابر محمد الشعيبي

التعليم العالي يتجاوز متطلبات سوق العمل | جابر محمد الشعيبي

جابر محمد الشعيبي*

في الإمارات، لم تعد الجامعة مجرّد صرحٍ تعليمي يمنح الشهادات، بل تحوّلت إلى أداة استراتيجية لصياغة المستقبل، ففي بلدٍ يطمح لريادة الاقتصاد العالمي ويتنافس على ريادة الثورة الصناعية الرابعة، يبرز سؤال جوهري: هل تُعدّ الجامعات الإماراتية خريجين فقط؟ أم قادة يفكرون، يقرّرون ويقودون؟
منذ إطلاق «رؤية الإمارات 2021» وما تبعها من استراتيجيات مثل «مئوية الإمارات 2071» و«ال50 عاماً القادمة»، أصبح من الواضح أن التعليم العالي لم يعد محصوراً بتلبية احتياجات سوق العمل، بل بات مطلوباً منه أن يكون في قلب المنظومة التنموية والابتكارية، فالجامعة اليوم مطالبة بأن تكون منتجة للأفكار، شريكاً في صياغة السياسات ومُصدّرة للقيادات المؤثرة في القطاعين العام والخاص.
تؤكِّد المؤشرات أن الإمارات أحرزت تقدماً نوعياً على مستوى الأداء الأكاديمي في المنطقة، ففي تصنيف QS لأفضل الجامعات العربية لعام 2025، جاءت خمس جامعات إماراتية ضمن المراكز العشرة الأولى: جامعة خليفة (الرابعة عربياً) وجامعة الإمارات (الخامسة) والجامعة الأمريكية في الشارقة (العاشرة)، بالإضافة إلى جامعات مثل جامعة زايد وجامعة الشارقة وبذلك تكون الإمارات الدولة العربية الوحيدة التي سجّلت هذا التمثيل المكثف في المراتب العليا، من بين 246 مؤسسة أكاديمية مُدرجة في التصنيف.
غير أن السؤال الأهم يتجاوز التصنيفات العالمية: هل ينعكس هذا الحضور الأكاديمي في دور فعلي للجامعات كمحرّكات للتنمية ومراكز لإنتاج السياسات وصناعة القادة؟
التجارب الإماراتية الحديثة تشير إلى تحولات واعدة في هذا الاتجاه.
تُعد جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي نموذجاً استثنائياً في المشهد الأكاديمي فهي أول جامعة بحثية في العالم مخصصة بالكامل لدراسات الذكاء الاصطناعي وتُدار برؤية استراتيجية تهدف إلى تعزيز ريادة الإمارات في الثورة التكنولوجية في عام 2025، استقبلت الجامعة أكثر من 2,000 طلب للانضمام إلى برنامج التدريب البحثي الصيفي وقبلت 4% فقط من المتقدمين، ما يعكس التنافسية العالية ونوعية الكوادر العلمية التي تستقطبها، كما استقبلت دفعتها الجديدة 209 طلاب دراسات عليا من 36 جنسية، بزيادة 47% عن العام السابق وأطلقت مشاريع بحثية تطبيقية في مجالات ترتبط مباشرة بالأولويات الوطنية مثل الصحة والطاقة والبيئة. وتضم الجامعة أكثر من 80 أستاذاً وباحثاً دائماً، إلى جانب 200 باحث ما بعد الدكتوراه، ما يجعلها مركزاً حيوياً لإنتاج المعرفة والتأثير في سياسات الدولة الرقمية.
وفي السياق ذاته، تُبرز كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية نموذجاً متقدماً لجامعة تدمج بين التدريب التنفيذي والتفكير القيادي. فالكلية تركز على بناء القدرات الحكومية من منظور استراتيجي وتُعِد قادة في القطاع العام يمتلكون أدوات تصميم السياسات والتفاعل مع تحديات الحوكمة والابتكار، كما تُعدّ الكلية دراسات ومؤشرات وطنية تُستخدم في صياغة قرارات حكومية محورية، ما يجعلها من الجهات الفكرية القليلة في العالم العربي التي تؤثر فعلياً في السياسات العامة.
ورغم هذه النماذج المتقدمة، لا تزال أغلبية الجامعات الإماراتية محصورة في نموذج «تخريج الموظفين» فرغم وجود أكثر من 70 مؤسسة تعليم عالٍ مرخّصة في الدولة، يبقى عدد مراكز البحوث التطبيقية ذات الأثر المباشر في السياسات العامة محدوداً، كما أن العلاقة بين الجامعات ومؤسسات صنع القرار لا تزال في كثير من الأحيان شكلية أو مرتبطة بمشروعات مؤقتة.
لتجاوز هذا التحدي، ثمة حاجة ملحّة لإعادة تعريف فلسفة التعليم العالي في الإمارات، لا يكفي أن تكون الجامعات ذات تصنيفات مرموقة، بل يجب أن تكون خططها البحثية متداخلة مع الأولويات الاستراتيجية للدولة في مجالات الذكاء الاصطناعي، الأمن الغذائي، الاقتصاد الرقمي، المناخ، والصناعات المتقدمة ويجب أن تتحوّل إلى مراكز تفكير حقيقية (Think Tanks)، تُنتج سياسات وتشريعات للمستقبل، لا أن تكتفي بتكرار المعرفة الجاهزة.
نموذج الجامعة التي تُنتج قادة لا موظفين يتطلب إعادة توجيه منظومات التمويل والاعتماد الأكاديمي وفق مؤشرات تأثير ملموسة: عدد القادة الذين تخرجوا منها وتولوا مناصب تنفيذية، عدد السياسات العامة التي تأثرت بأبحاثها وعدد الابتكارات التي تحوّلت إلى منتجات أو خدمات وطنية، كما يتطلب هذا النموذج إنشاء جسور مؤسسية دائمة مع مؤسسات دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتسهيل حركة الأساتذة والخبراء بين القطاع الأكاديمي ومراكز التأثير الحكومية والخاصة.
إن الإمارات، بما تمتلكه من إرادة سياسية، موارد بشرية وبنية تحتية معرفية متطورة، قادرة على أن تصبح نموذجاً عالمياً في تحويل التعليم العالي من أداة للتوظيف إلى ذراع أخرى للتنمية وإذا تم تسريع التحوّل من جامعات «الكمّ» إلى جامعات «الأثر»، فإن الجامعات لن تكون فقط مؤسسات تعليم، بل ستكون رافعاتٍ حقيقيةٍ لصناعةِ المستقبلِ الإماراتي.

* كاتب وباحث إماراتي

[email protected]