فاطمة البقالي تخلق خطوطًا تنبض بالحياة روحًا.

فاطمة البقالي تخلق خطوطًا تنبض بالحياة روحًا.

تولي الإمارات فن الخط العربي اهتماماً نوعياً رفيعاً، كأحد الأركان البصرية لهويتها الثقافية والإسلامية، بما يمثله هذا الفن العريق من قيمة فنية جمالية، بالإضافة إلى دوره المهم في إبراز التراث العربي، وتعزيز التبادل الثقافي مع العالم. ويظهر هذا الاهتمام في تأسيس وإطلاق الجوائز التقديرية للخطاطين، فضلاً عن تخصيص معارض موسمية تكرم الحرف العربي بوصفه تراثاً حياً.

لعل من أبرز نتائج هذا الاهتمام، بروز أسماء نسائية إماراتية في هذا الفن، منهن الخطاطة الراحلة فاطمة البقالي، التي قدمت إحدى لوحاتها البديعة تفسيراً بصرياً راقياً، للآية القرآنية «الشمس والقمر بحسبان» (الرحمن: 5)، بخط الثلث، على هيئة ساعة كونية تحتضن الزمن وتستحضره بتركيب فني يتماهى مع المعنى الدقيق والمنظم في الآية الكريمة.

تكوين

تتحول الآية الكريمة في هذا العمل إلى نواة زمنية، تحاط بتكوين بصري على هيئة الساعة، بما تحمله من رمزية دقيقة للقياس والتنظيم والتناسق، باعتبار أن الشمس والقمر رمزان لميزان دقيق يسير وفق حساب إلهي محكم، وكأن الزمن انكشاف دائم لقانون رباني.

الفنانة التقطت هذا المعنى العميق وأعادت صياغته في تركيب اللوحة، فتضع النص داخل دائرة تمثل قلب الساعة، ومنها تمتد اثنتي عشرة نقطة زخرفية كالساعات الاثنتي عشرة في قرص التوقيت، لتصبح اللوحة ساعة كونية قرآنية، تُشير إلى أن الزمن يدور في فلك الخلق.

خط الثلث المستخدم في هذه اللوحة، يعلمنا أن الحرف العربي لا يقدر إلا بميزان الدقة والرهافة، وأنه كلما ازداد اتساع العين على الحشود الزخرفية وأسرارها، أدركنا رسوخ التراث في جذور الابتكار، والخطاطة تخضع نص الآية لنظام بصري بالغ التعقيد، كل حرف ممهور بانحناءات مدروسة، ترتفع فيه رؤوس الألِفات، وتتداخل في بعضها في هيبة وطمأنينة، وكأننا نشاهد شروق شمس في قلب اللوحة وزحف نورها إلى تخوم الزخرفة المحيطة، تجاوزت معها الحروف مهمة نقل المعنى اللغوي، وتحولت إلى وحدات قياس، كأن كل ألِف أو لام هو عقرب صغير يتحرك داخل هذه المنظومة الزمنية، ويظهر هذا الإتقان تحكماً بصرياً عالياً بالتكوين والفراغات، ويدل على خبرة في التكوين الفني داخل القوالب الخطية التقليدية.

تناغم

وحين ينظر المتأمل بدقة إلى الزخارف الموزعة كالعقد حول المركز الخطّي، يدرك أن روح الزخرفة الإسلامية حاضرة بكثافة مدروسة بعناية، نلاحظ فيها تناغماً بين الأزرق والذهبي، وهما لونان لا يختارهما الخطاط عبثاً في اللوحة، فالأزرق هنا يرمز للفضاء السماوي واللا نهائي، بينما يجيء الذهبي ليعيدنا إلى مركز النور الإلهي، فيحاكي وهج الشمس وسطوع نور القمر.

هذه اللوحة أو الساعة الزخرفية، بتقاطعاتها الهندسية الدقيقة، تحتفي بالدوران الأزلي للكون والخضوع لقوانين «الحسبان». ولعل القيمة الجمالية والفنية في اللوحة، هو أن الحرف وظف كشاهد على العلم الإلهي المنتظم، بحيث يصبح العمل الفني كلمات تشهد بالدقة الكونية.

تستحضر الزخرفة هنا روح المدارس الخطية العريقة مثل العثمانية والفارسية، عبر استخدام الزخارف النباتية المتموجة، المتصلة ببعضها بإيقاع بصري منسجم، من دون أن تطغى على مركزية الخط، ليمنح هذا التوازن بين الزخرفة الدقيقة والخط المرن اللوحة طابعاً هندسياً، يعيد إلينا بوصلة الإدراك أن كل لحظة شمسية أو قمرية هي جزء من هندسة إلهية دقيقة، وأن الحروف حين تكتب بالفن، يمكنها أن تخلق عالماً بصرياً نراه يسحر الألباب.

تجمع هذه اللوحة بين رمزية الآية القرآنية والانتظام الكوني وشكل الساعة، وانسيابية وجماليات خط الثلث، عبر حرفة دقيقة متقنة، وتجربة نسائية مميزة بلمسة إماراتية أصيلة، هي بمثابة شاهد حي على أن فن الخط العربي هو فن بصري وثقافي يجمع بين الإبداع الجمال العربي الرفيع.

إضاءة

الخطاطة الراحلة فاطمة سعيد البقالي، هي أول خليجية إماراتية مجازة في خطوط الثلث والنسخ والديواني والديواني الجلي من إسطنبول، حصلت على شهادة معهد الخط العربي والفن الإسلامي بدرجة امتياز، درست في مركز الشارقة لفن الخط العربي والزخرفة، وتلقت دروس الخط العربي والزخرفة على يد الدكتور صلاح الدين شيرزاد ثم التحقت بدورات لتعليم الخط العربي في تركيا على يد حسن جلبي وداوود بكتاش، شاركت في العديد من المعارض في الإمارات وخارجها وفازت بعدد من الجوائز في المسابقات المحلية والدولية.