العقلية الجدلية: إصدار جديد | يحيى زكي

العقلية الجدلية: إصدار جديد | يحيى زكي

يحيى زكي

حلَّل المفكر برهان غليون يوماً في كتابه «اغتيال العقل» طبيعة العقلية السجالية التي ميزت عقوداً من النقاش والحوار بين تيارات الفكر العربي المختلفة، تأسست هذه العقلية على الجدال وليس الجدل، بمعنى أن نتيجة الحوار بين فكرتين لم تكن تطرح فكرة جديدة مبتكرة وخلاّقة وإنما كان الحوار لا يصل إلى شيء، أو يعود إلى بداياته، أي يحقق نتيجة صفرية ويبدأ الجدال من جديد.
والمتابع للفكر العربي منذ مدافع نابليون وحتى الآن، يلحظ صوابية هذا الطرح إلى حد كبير، فنحن نراوح منذ قرنين حول الأفكار نفسها وما طرحه مثقفو اللقاء الأول مع الغرب مثل رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وفارس الشدياق، في مختلف بلدان العالم العربي، هو ما أعاد نقاشه مفكرو عصر النهضة في النصف الأول من القرن العشرين وأيضاً ما كرره مفكرو ما بعد الاستقلال. صحيح كانت هناك مسائل تستجد وطرائق مختلفة في معالجة القضايا ولكن جوهر الأفكار كان واحداً، لم يتغير.
هذا الأمر أدى إلى ثلاث ظواهر ميَّزت الفكر العربي، الأولى تمثلت في أن هذا الفكر بدا وكأنه متحجرٌ لا يتغير، حتى وصفه البعض بالثبات أو المراوحة الأبدية، أو الوقوع في التوفيق أو التلفيق بين المتناقضات، وهو ما يقود إلى الظاهرة الثانية، فهذا الفكر ظهر دائماً وهو متأخر عن واقعه الذي يمور بمتغيرات وتحولات لا يستطيع أن يتابعها، كما أنه لم يتجاوب مع قضايا العالم من حوله أو يتفاعل معها، ما جعل الكثيرين يصفون المفكرين العرب بأنهم يعيشون في أبراج عالية، وفي عزلة عما يحدث حولهم أو حول الآخرين ونتيجة لهاتين الظاهرتين نشأت الظاهرة الثالثة وأعنى تلك الأزمة التي تعرَّض لها هذا الفكر منذ عقدين على الأقل، فتوقف عن الصخب والضجيج اللذين ميَّزا ساحتنا الفكرية والثقافية لفترات طويلة.
مع التكنولوجيا الحديثة ومواقع التواصل، تكررت العقلية نفسها، فالطابع السجالي الذي ميز تيارات الفكر العربي، ملاحظ الآن وبكثافة في تلك المواقع وإن كانت النسخة الحديثة من هذه العقلية أسوأ من نظيرتها القديمة، فهي لا تعبّر عن أفكار واضحة أو متماسكة، والجدال يدور حول جمل وكلمات وآراء منزوعة من سياقاتها وتشارك فيه أطراف لا تملك الحد الأدنى من المعلومات أو مقومات بناء الرأي وهناك قضايا شديدة الأهمية تحوَّلت إلى مسائل سخيفة في تلك المواقع وهناك بعض القضايا الحساسة التي تعالج بالتشنج والصراخ، فضلاً عن الخفة والسرعة.
إن تجدّد العقلية السجالية مرة أخرى، عبر وسائط مختلفة، لا بدّ أن يدفع إلى السؤال: هل تميز تلك العقلية الروح العربية؟ أو بمعنى أكثر تحديداً، هل عقلنا العربي سجالي انشطاري، يعجز عن حسم قضاياه أو ابتكار قضايا جديدة تناسب العصر والأجيال الجديدة؟ وهي إجابة تحتاج إلى علماء نفس بقدر حاجتها إلى مفكرين وعلماء اجتماع، لأن بقاءنا أسرى لتلك العقلية لا يبشر بمستقبل نتطلَّع إلى أن نكون شركاءَ للعالم فيه.