السياسة الاقتصادية لأمن المياه في منطقة الخليج العربي | جابر محمد الشعيبي

السياسة الاقتصادية لأمن المياه في منطقة الخليج العربي | جابر محمد الشعيبي

جابر محمد الشعيبي*

تبرز قضية الأمن المائي في قلب التحولات المناخية والاقتصادية التي يشهدها العالم كأحد أكثر التحديات إلحاحاً أمام دول مجلس التعاون الخليجي. فالمنطقة تقع ضمن الحزام الصحراوي الأشد جفافاً عالمياً، وتعتمد بنسبة تفوق 80% على تحلية المياه، وهي عملية عالية التكلفة ومرتبطة بكثافة استهلاك الطاقة، ما يجعل الأمن المائي متشابكاً مع قضايا أمن الطاقة والاستدامة الاقتصادية على المديين المتوسط والبعيد.
تشير بيانات مؤشر الإجهاد المائي العالمي الصادر عن معهد الموارد العالمية إلى أن معظم دول الخليج تقع ضمن الفئة الأعلى إجهاداً مائياً عالمياً، إذ يتجاوز معدل استهلاك المياه المتجددة لديها أكثر من عشرة أضعاف الموارد الطبيعية المتاحة سنوياً. هذا الواقع لا يعكس فقط أزمة موارد طبيعية، بل يمثل تحدياً استراتيجياً يتطلب تدخلاً متعدد المستويات يشمل السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا.
في مواجهة هذه التحديات، برزت دولة الإمارات كنموذج خليجي متقدّم في ربط الأمن المائي بالتخطيط الاستراتيجي طويل المدى، حيث أطلقت «الاستراتيجية الوطنية للأمن المائي 2036»، التي تستهدف خفض استهلاك المياه بنسبة تتجاوز العشرين في المئة، وتحقيق كفاءة تصل إلى 95% في إدارة الموارد المائية، وذلك من خلال دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي والاستشعار عن بعد وتحلية المياه منخفضة الكربون في المنظومة الوطنية للمياه.
يتقاطع هذا التوجه مع مسار آخر أكثر طموحاً يتمثل في الاستثمار الزراعي الخارجي، حيث تتوسع دول الخليج، وعلى رأسها الإمارات والسعودية، في استثماراتها الزراعية عبر قارات متعددة مثل إفريقيا وآسيا وأوروبا الشرقية. وتشير تقارير منظمة الأغذية والزراعة إلى أن هذه الاستثمارات تجاوزت قيمتها 12 مليار دولار حتى عام 2024، في محاولة لتعزيز أمن الغذاء من خلال امتلاك سلاسل إنتاج غذائي مرنة لا تتأثر بالأزمات العالمية أو بشح المياه المحلي.
إلا أن هذه الاستراتيجية تطرح في المقابل تحديات سياسية وبيئية محتملة، لاسيما ما يتعلق بقضايا الاستحواذ على الموارد في البلدان المضيفة، والتعامل مع تبعات التغير المناخي على تلك المناطق.
على المستوى المحلي، تواصل الإمارات تعزيز موقعها الريادي من خلال تسريع تبني التقنيات الزراعية الذكية، حيث تشهد أبوظبي توسعة غير مسبوقة لمراكز الأبحاث الزراعية المتخصصة في الزراعة العمودية، والزراعة في البيئات القاحلة، وإعادة استخدام المياه. وفي إمارات أخرى مثل دبي والشارقة، برزت مبادرات نوعية في الزراعة الحضرية الذكية، وإنشاء مزارع رأسية داخل المناطق الصناعية والسكنية، إلى جانب الاستثمار في تقنيات الاستشعار الذكي والرصد البيئي لتحسين كفاءة الري والحد من الفاقد المائي. كما ساهم دعم الدولة لقطاعات الزراعة المائية، والري بالتنقيط، واستخدام المياه الرمادية في خفض استهلاك المياه بنسبة تصل إلى 90% في بعض المشاريع التجريبية، ما يعزز من مرونة النظام الغذائي ويخلق فرصاً جديدة لتوطين الابتكار في القطاع الزراعي.
من جهة أخرى، بدأت المياه تتحول تدريجياً إلى عنصر ضمن أدوات النفوذ في السياسات الإقليمية، إذ باتت دول الخليج تنظر إلى التعاون المائي مع دول حوض النيل والعراق والأردن بوصفه امتداداً لأمنها القومي الاقتصادي، وهو ما يفتح الباب أمام تحالفات جديدة مبنية على الربط بين المياه والطاقة والغذاء، في إطار ما يعرف بمقاربة «نِكسَس» التي تعتمد على الترابط بين الموارد الحيوية الثلاثة.
انطلاقاً من هذا السياق المركّب، تبدو الحاجة إلى إعادة هيكلة منظومة إدارة المياه في دول الخليج بشكل يعزز الكفاءة الاقتصادية ويواكب التحولات التكنولوجية، مع مراعاة الجوانب الاجتماعية والبيئية. ويُعد تعديل نظام تسعير المياه خطوة محورية لتحفيز الاستخدام الرشيد دون الإضرار بالفئات ذات الدخل المحدود، كما أن توسيع الاستثمارات في البحث والتطوير الزراعي وربط مخرجات الجامعات الوطنية بمشاريع السيادة الغذائية يشكلان ركيزة مستقبلية للاستدامة. في الوقت ذاته، تبرز أهمية صياغة استراتيجيات استثمار زراعي خارجي تراعي البعد البيئي والاجتماعي وتعزز من استقرار الشراكات على المدى الطويل. كما يُعد توسيع التعاون الإقليمي في مجالات المياه والطاقة المتجددة أداة استراتيجية لتعزيز الأمن الجماعي، فيما يجب أن تترافق هذه السياسات مع حملات توعية مجتمعية ترسّخ ثقافة الماء كمورد نادر واستراتيجي لا كمجرد خدمة استهلاكية.
في المحصلة، لم تعد المياه مجرد مورد بيئي أو خدمة خدمية، بل أصبحت ركيزة من ركائز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. ويملك الخليج العربي اليوم جميع المقومات التي تمكّنه من إعادة صياغة علاقته بالماء من خلال أدوات السياسة الذكية، والتكنولوجيا المتقدمة، والدبلوماسية الاقتصادية. إنها لحظة الانتقال من إدارة الأزمة إلى هندسة المستقبل.

* كاتب وباحث إماراتي

[email protected]