حضارة “العين” | يحيى زكي

حضارة “العين” | يحيى زكي

يحيى زكي

يطلق البعض على حضارتنا الراهنة توصيف «عصر الصورة»، بينما يميل البعض الآخر إلى «ثقفنة» الموضوع أكثر ويقول إننا نعيش في زمن «حضارة العين»، أي أن كل شيء في حياتنا أصبح مرئياً، ترصده العين بيسر وسهولة، من هنا محنة الإبداع التي يتلمسها الجميع حتى في البلدان المتقدمة، حيث إنها تعود في الأصل إلى أزمة خيال تؤثر سلباً بتوحش ثقافة «حضارة العين».
عندما يكون كل شيء مرئياً تتراجع القدرة على التخيل، ومع ذلك التراجع تضعف ملكة الابتكار، وهي عملية معقدة تبدأ في المخ عبر تصور معين يحتاج إلى الجهد والدأب لكي يخرج من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل كما يقول الفلاسفة.
لقد كانت وسائل التلقي سابقاً تثير المخ وتحفزه على التخيل بداية من حكايات الأمهات والجدات وليس نهاية باختراع الراديو والاستماع إلى الشعر والموسيقى. كانت الأذن الفاعلة تهيئ الإنسان للتخيل، وكانت الرغبة في إبداع الجديد أو خوض مغامرة اللا مرئي وتحويله إلى مرئي أداة الابتكار الرئيسية، فالإنسان لكي يبتكر لابد له من أشياء تثير شغفه، أشياء مخبوءة يبحث عنها، وهناك أيضاً ضرورة لوجود تحديات ومخاطر عليه أن يذللها، ويزيحها عن طريقه، من هنا جاءت كل الاختراعات التي دفعت البشرية إلى الأمام، مصحوبة بالأفكار والأطروحات التي كانت تنشد الأفضل دوماً، ولكن هذه الصورة تغيرت تماماً في عصر حضارة العين.
غزت ثقافة العين البشر مع توحش العولمة، لم تصبح الأخبار مرئية في معظمها إلا مع انتشار البث الفضائي خلال صعود العولمة منذ عقود قليلة، والعين تتأثر أكثر من أي حاسة أخرى بما يعرض أمامها وتميل إلى تصديقه، وهذا سبب تركيز قطاعات بحثية ضخمة على ثيمة تلاعب الإعلام بالعقول، وصاحَب غزو العقول عبر العيون تدفق السلع والخدمات بطرائق مفتوحة وعابرة للحدود وفي كل مكان، وبدا وكأن العين نفسها تم تسليعها للوصول إلى الهدف الأساسي والمتمثل في الترويج لثقافة الاستهلاك.
توحشت ثقافة العين من خلال الهاتف المحمول، أصبح كل إنسان عرضة للغزو، ولأول مرة في التاريخ، وجدنا وسيلة اتصالية تتسم بكل هذا القدر من الفردية والحميمية في الوقت نفسه، حتى وصف بعض المفكرين الهاتف المحمول بأنه «امتداد طبيعي ليد الإنسان»، ورويداً رويداً تكاملت في المحمول كل عناصر العملية الإعلامية الاتصالية كما عرفناها. بات هو الرسالة والوسيلة والشكل والمحتوى ورجع الصدى في الوقت نفسه، بل وظّفه البعض ليكون هو المرسل أيضاً، ومع تلك الطفرة غير المسبوقة في التركيز على العين تراجع الخيال أكثر وأكثر، وبات العالم مرئياً ليس أمام الإنسان في الشاشات ولكنه ملكه وفي راحة يده.
لم يقف التأثير السلبي لحضارة العين في الخيال وحسب، ولكنه امتد إلى القيم وما يتعلق بالروح وطبيعة الإنسان نفسها، وأصبحنا نشاهد ولع الكثيرين بالتقاط صور «السيلفي» في كل مكان، حتى في الأمكنة المقدسة، بل وهناك من يقدم على إنهاء حياته بطريقة مصورة، وكأنه سيستفيد من ثقافة «الشو» بعد رحيله.