الثُلث المُشرق”… ضوء الكلمة ينير الروح

برزت المدرسة العثمانية بوصفها إحدى أعرق وأهم المدارس في فن الخط العربي، وتميزت في المزج بين الإرث الإسلامي في مجال الخط العربي وبين الإبداع الفني الذي أضافه الخطاطون العثمانيون، وقد بلغ الخط العربي في كنف هذه المدرسة ذروته الجمالية في خطوط مثل الثلث والنسخ والديواني، حيث صار لكل حرف وزن ولكل تركيبة جماليات بصرية، استلهم الخطاطون في هذه المدرسة من المدارس الخطية الفنية السابقة، خصوصاً المدرسة العباسية والفارسية، وأضافوا بصماتهم الخاصة التي جعلت الخط العربي أكثر أناقة وتفرداً.
الخطاط التركي فرهاد قورلو هو وريث هذه المدرسة بروح معاصرة، حافظ على ملامحها الكلاسيكية من حيث الوقار والزخرفة والانسجام، لكنه أضاف إليها لمسة بنفس معاصر يوازن بين التراث والذائقة الحديثة، ويصر قورلو على أن يبقى الحرف هو الأصل في المشهد البصري، من خلال بناء التكوينات الحروفية لتصبح تجربة فنية وجدانية تعتبر مرآة للمدرسة العثمانية في أبهى تجلياتها.
*توازن
في هذه اللوحة التي بين أيدينا، يكتب قورلو للآية الكريمة: «ونحن أقرب إليه من حبل الوريد» «سورة ق: 16»، وهي آية شديدة العمق الوجودي والروحاني، وتمنح الفنان مجالاً واسعاً للغوص في فضاء من الحضور الإلهي، وتقاطعات الروح والجسد بين النص والرؤية، كتب اللوحة بخط الثلث الجلي، وهو سيد الخطوط العربية وأكثرها مهابة ومرونة في آن واحد، إذ يعتبر الثلث من أصعب الخطوط تنفيذاً لأنه يجمع بين الانحناء والانسياب والدقة.
تم تنفيذ النص داخل تكوين يشبه قطرة الماء أو قلباً مقلوباً، وهو تكوين كلاسيكي في المدرسة العثمانية، غالباً ما يستخدم في الآيات التي تتطلب حضوراً شعورياً مكثفاً، ينحدر النص من القمة إلى القاعدة، حيث تتركز البداية في الجزء الأعلى وتنتهي في القاعدة بثبات ووقار بصري، يبدأ النص بالكلمة «ونحن» بحرف الواو العلوي المائل إلى اليسار، وكأنه يفتح الباب أمام المشهد الفني، ثم يكتب الخطاط حرف «الحاء» فيها بتوسعة لولبية تحتية تدل على مدى تمكنه من قلم الثلث، جاعلاً حرف «النون» متداخلاً بانسجام مبدع مع باقي الحروف.
تظهر المهارة العالية للفنان في تطويع الحروف في الكلمة «أقرب»، الألف قامت بدور عمود التوازن، أما القاف فرسمت بثبات نبيل، تلاها حرف «الباء» في نهاية الكلمة ليبدو وكأن بقية النص يرتكز عليه دون ثقل، كما أبرز الخطاط تمايل الحروف واستطالتها بصرياً بحركة سلسة متدفقة، وكأن كل كلمة تنكمش وتتمدد بمرونة تعبر عن العلاقة بين القرب واللطف الإلهي.
تتماسك الكتلة الحروفية بوقار في التكوين من القمة إلى القاعدة، مع محور توازن بصري يعتمد على التناظر والتقارب في رسم حرف «الحاء» المكرر في «نحن» و«حبل» مدمجة عمودياً كمحور ارتكاز تتوزع حوله امتدادات الحروف، وجاء تنفيذهما بأناقة لولبية، لتستقر عين المتأمل في النهاية على كلمة «الوريد»، التي شكلت امتداداً فنياً ومفاهيمياً، حيث اتسع الخط فيها ليشبه تدفق الدم ذاته، وكأن الكلمات تسير في الوريد.
*مهارة
تحسب للخطاط مهارته في الحفاظ على الاتزان العام رغم تعقيد الحروف وتداخلها، من خلال الاستخدام الواعي للفراغات، ما يمنع تراكم الحروف واختناق العين، لينطلق النفس الفني بارتياح يتماهى مع المعنى الوجداني للآية الكريمة، بالطمأنينة والسكينة.
اعتمد الفنان في تكوين الإطار الزخرفي الخارجي في لوحته والذي استوحاه من فن «التذهيب» العثماني، على الزخارف الذهبية الدقيقة والتي أبرزت التقنية العثمانية في فن الزخرفة، والذي يعتمد على الوريقات النباتية والأزهار المنمقة ذات التكوينات المتماثلة، لتخلق إيقاعاً بصرياً يكسر جمود التكوين الحروفي الجاد والصارم، كما عززت الخلفية الداكنة المحيطة بالإطار الملون من بروز الخط، مع انسجام متدرج مع لون الخلفية في الإطار الداخلي، وتناثرت الزهور الوردية والصفراء داخل الإطارات لتمنح اللوحة دفئاً وشاعرية.
*إضاءة
ولد الخطاط التركي فرهاد قورلو عام 1976، حصل على إجازة الخط من حسن جلبي في خطي الثلث والنسخ عام 2000 بعد دراسة أربع سنوات معه في مركز أرسيكا، حصل على الجائزة الأولى في خط الثلث الجلي في المسابقة الدولية الخامسة لفن الخط والتي ينظمها مركز أرسيكا كل ثلاث سنوات، شارك في العديد من المعارض المحلية والدولية المشتركة منها معرض الخط الدولي في دبي.