الحروف العربية: تأملات في الحكمة الروحية

الشارقة: علاء الدين محمود
هنالك العديد من العوامل التي تلعب دوراً مهماً في نجاح العمل الخطي أهمها براعة الخطاط نفسه والنص الذي يبني عليه اللوحة، حيث إن الفنان الجيد هو الذي يمتلك القدرة على توظيف القلم واستخدامه في صناعة عمل جمالي، كما أن النص الذي يبقى في نفوس المشاهدين يؤثر في دواخلهم ومشاعرهم، لذلك غالباً ما يتجه الخطاطون نحو الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، وكذلك الشعر الذي يحمل الحكمة.
كثير من الفنانين نجحوا في صناعة أعمال بقيت ورسخت في الأذهان، برعوا في ابتكار مساحات جمالية وإبداعية عبر توظيف العديد من الأقلام ومنها قلم الثلث، الذي يمتلك العديد من المميزات والسمات، فلئن كانت اللوحة التي يستخدم فيها هذا الخط تبدو في بعض الأحيان صعبة وربما عصية على الفهم، وذلك لطبيعة حروف «الثلث الجلي»، فإن تلك الصعوبة هي التي تصنع الذائقة الفنية وترتقي بالحس الجمالي لدى المتلقي، الذي يستنفر، عند لحظة محاولة قراءة اللوحة، كل قدراته الذهنية، حيث يكون الذهن في حالة تفكير من أجل تفكيك عوالم اللوحة إلى أن ينجلي له أمرها، بالتالي فإن تلك الصعوبة تحرض المتلقي على التفكير، وكذلك على التأمل في الممارسات والجهود الفنية والإبداعية التي بذلها الخطاط، والأهم من ذلك فإن النص يبقى راسخاً في ذهن الناظر للعمل الفني فيعمل على تأمله وتدبره بل وتمثله في حال أنه نص قرآني أو حديث شريف، لذلك فإن فائدة «الثلث الجلي»، والخطوط التي قد تبدو معقدة أنها تحرك إمكانيات الذهن وكذلك الخيال، كما أن الأبعاد الجمالية في العمل تبدو أكثر إشراقاً من خلال الإضافات الزخرفية بأشكالها المختلفة والتذهيب في بعض الأحيان.
ولعل من الفنانين الذين قدموا اشتغالات خطية مميزة عبر خط «الثلث الجلي»، وبعض الأقلام الأخرى، شيخ الخطاطين الأشهر حسن الجلبي، الذي استطاع أن يصنع لنفسه أسلوباً خاصاً عبر هذا القلم وبعض الخطوط الأخرى، ومن هذه الأعمال الشهيرة للجلبي لوحة تحمل نصاً قرآنياً من سورة المائدة، وجاء فيه: «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً»، وهو نص يدعو للفضائل العظيمة وعدم الوقوع في المعاصي خاصة قتل النفس التي حرم الله تعالى قتلها، فتجنب تلك الجريمة كأنه إحياء للناس، وتلك معان جميلة يحتشد بها النص وتقود إلى عالم خال من الكراهية والبغض وكل ما يقود إلى الشرور بين البشر.
وعمل الخطاط على مقاربة تلك العوالم والقيم العظيمة الرفيعة التي يدعو لها النص عبر العديد من الاشتغالات الإبداعية الفنية التي تجعل تلك المعاني راسخة في ذهن المشاهد، حيث استفاد الجلبي من المميزات الكثيرة في خط الثلث الجلي، فضلاً عن مجموعة من الإضافات الفنية في إبراز الحروف وامتداداتها، والتشكيل وعلامات الإعراب والنقاط، بما يحقق رؤية مشهدية بصرية مترعة بالجمال بما يسرب الراحة إلى عين المتلقي الذي يعمل على متابعة تلك الحروف الممتدة والمتعانقة من أجل قراءة العمل بشكل صحيح.
ولعل اختيار النص نفسه يشير إلى الحس الفني العالي لدى الخطاط، فالمعاني التي تضمها الآية تجعل الفنان في عزم فني أكيد من أجل إبرازها بصورة تتناسب مع مقامها السامي والرفيع، فاللوحة تعبر عن حالة وجدانية وروحية يشعر بها المتلقي الذي يقف أمام جلال النص، وكذلك الإبداعات التي قدمها الفنان مما جعل اللوحة تضج بالحيوية والحركة، إضافة إلى توظيف خلفية بلون فاقع من أجل أن يركز الناظر على اللوحة التي كتبت باللون الأسود، ليبرز العمل كحالة جمالية متوهجة بالجمال والمعاني والقوة العاطفية، إذ إن الخطاط استفاد من مساحة اللوحة ليعمل على تركيز النص في المنتصف داخل برواز يحمل النص، ثم إطار خارجي باللون الأحمر القاني كمساحة من أجل إجراء عمليات الزخرفة بشكل متميز وبصورة تظهر التناغم والانسجام.
*تميز
تقف اللوحة شاهدة على براعة الخطاط الشيخ حسن جلبي المولود في عام 1937م، وصاحب التجارب الخطية الكبيرة بحيث أصبحت له بصمة خاصة، كما صار له تلاميذه من مختلف أنحاء العالم، فهو صاحب مئات اللوحات والأعمال الفنية إضافة إلى الكتابة على واجهات المساجد وقبابها، فقد خط نصوصاً في سبعين مسجداً في تركيا والكويت والسعودية والإمارات، ونظم العديد من المعارض الخاصة.