بين ضغوط واشنطن واستقلال البنك الفيدرالي: ما الأسباب وراء عدم خفض باول للفائدة؟

بين ضغوط واشنطن واستقلال البنك الفيدرالي: ما الأسباب وراء عدم خفض باول للفائدة؟

شهدت واشنطن الأربعاء الفائت جولة جديدة من المواجهة بين رأس السياسة النقدية الأمريكية جيروم باول، وسيد البيت الأبيض دونالد ترامب الذي يواصل ضغطه العلني لخفض أسعار الفائدة، في مقابل تشبث رئيس الاحتياطي الفيدرالي باستقلال مؤسسته، مستنداً إلى بيانات اقتصادية مشوبة بتأثيرات الرسوم الجمركية وتصاعد القلق بشأن التضخم.

وهاجم ترامب باول مراراً وتكراراً، داعياً إياه لخفض أسعار الفائدة بما يرضيه. ووصفه مؤخراً بـ«الغبي»، وألمح مراراً إلى إمكانية إقالته قبل انتهاء ولايته في مايو المقبل. ومن وجهة نظره، فإن باول ليس خبيراً اقتصادياً؛ بل محامٍ، حصل على درجة الدكتوراه في القانون من جامعة جورج تاون عام 1979.

لكن المؤسسة النقدية الأكبر في العالم رفضت الرضوخ لضغط ترامب الشرس لخفض أسعار الفائدة، كاشفة عن كيفية تعامل كبار صانعي السياسة النقدية في الولايات المتحدة مع الاقتصاد الأمريكي في ظل تداعيات الرسوم الجمركية.

وللشهر الرابع على التوالي، أبقت لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية أسعار الفائدة على الأموال الفيدرالية للاقتراض في جميع أنحاء الاقتصاد الأمريكي ثابتة، عند نطاق 4.25% إلى 4.5%، الذي استقرت عليه منذ ديسمبر، وذلك رغم اعتقاد الكثيرين أن الوقت قد حان لمنح المقترضين فرصة.

لماذا عدم الخفض؟

يبدو أن البيانات الاقتصادية الأخيرة تُلبي الشروط المُسبقة لخفض أسعار الفائدة، وهي استقرار التضخم وضعف سوق العمل، إلا أن الاحتياطي الفيدرالي كان متردداً في اتخاذ أي إجراء، مُشيراً إلى التأثير غير المؤكد لرسوم ترامب الجمركية. ولتحقيق ذلك، لابد، بحسب خبراء الاقتصاد في «غولدمان ساكس»، من ارتفاع التضخم من أحدث مستوياته البالغة 2.5% إلى 3.3%، وهو متوقعٌ بحلول ديسمبر، وفقاً لمقياس التضخم المُفضل لدى الاحتياطي الفيدرالي، وهو نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسية. ويشير غولدمان أيضاً أن الاحتياطي الفيدرالي يتوقع ارتفاع معدل البطالة لأعلى مستوى له في أربع سنوات عند 4.5%، وانخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 1.3%، على الرغم من أن البنك الاستثماري يتوقع أن يُحافظ الفيدرالي على رؤيته بتخفيضين في أسعار الفائدة في عام 2025.

دافع ترامب

في الوقت الذي يفضل فيه جميع الرؤساء تقريباً خفض أسعار الفائدة لدعم الاقتصاد خلال فترة ولايتهم، يرتبط دافع ترامب للضغط في سبيل ذلك بأولويات السياسة المحلية الرئيسية لإدارته بشأن الضرائب والإنفاق. ومع إقرار مجلس النواب لما يُسمى «مشروع قانون One Big Beautiful» (القانون الكبير الجميل)، والذي يُتوقع أن يفاقم الدين العام بمقدار 3 تريليونات دولار إضافية. ومن الطبيعي أن يدعو ترامب إلى خفض أسعار الفائدة، مما يجعل قروض الرهن العقاري في متناول الجميع، ومشاريع التطوير أسهل تمويلاً. وقال، يجب أن تكون أسعار الفائدة أقل بمقدار 2.5 نقطة مئوية، وهو ما سيوفر مليارات الدولارات لجميع ديون بايدن قصيرة الأجل.

ولجأت الإدارة الأمريكية السابقة، بقيادة وزيرة الخزانة آنذاك جانيت يلين، إلى الاقتراض من سندات الخزانة بعد أن هبط عائد سوق السندات القياسي لعشر سنوات إلى ما يقارب 5% في أكتوبر 2023، ما أثار مخاوف بشأن استيعاب المعروض من الديون متوسطة وطويلة الأجل.

في الوقت نفسه، أعرب ترامب عن خشيته من أن يؤدي ارتفاع الأسعار لفترة طويلة إلى ركود اقتصادي مدمر، مقارنةً بالصين ودول أخرى. وصرّح الأربعاء بأنه سيعتمد نهجاً قصير الأجل للغاية، وسينتظر حتى رحيل باول وتنصيب من يختاره لقيادة البنك المركزي. من ثم سيخفض أسعار الفائدة بشكل كبير، ويسلك نهجاً آخر طويل الأجل.

لم يكن خفض أسعار الفائدة، وخاصةً خفضاً كبيراً بمقدار 50 نقطة أساس، ضرورياً، إلا إذا كنتَ كامالا هاريس وتريد التوجه إلى الانتخابات مروجاً لاقتصاد قوي. أما اليوم، مع تولي باول دور عرّاف المؤسسة النقدية الأكبر في العالم، يقول إنه يسترشد بالبيانات، لكن البيانات تُظهر أن التضخم أقل بكثير، حيث اقترب بالفعل من الهدف الذي حدده الاحتياطي الفيدرالي والبالغ 2%. في الوقت نفسه، يتباطأ النمو الاقتصادي، ويُظهر سوق العمل بعض الضعف. لذا، يبدو أن الوقت مناسب لخفض أسعار الفائدة، لتحفيز الاقتصاد.

أولويات باول

لدى باول أولويات مختلفة. فالمهمة المزدوجة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي هي رفع معدلات التوظيف، والحفاظ على التضخم منخفضاً ومستقراً. وهو ما دفعه إلى إقرار سلسلة من زيادات أسعار الفائدة خلال إدارة بايدن، وعزز حذره حتى الآن في ولاية ترامب الثانية.

وقال باول في وقت سابق: «لقد ارتفعت مقاييس توقعات التضخم على المدى القريب، وتشير استطلاعات الرأي، والتي شملت المستهلكين والشركات والمتنبّئين المحترفين، إلى الرسوم الجمركية كعامل دافع أساسي».

وفــي ظــل تباطــؤ التضخــم وضعــف الوظائف، وبما أن بنك الاحتياطي الفيدرالي يتوقـــع خفـــض أسعار الفائـــدة مرتين فــي وقت لاحق من هذا العام، فلماذا لم يتخذ باول إجراءً الآن؟

في مؤتمره الصحفي الذي أعقب إعلان أسعار الفائدة، قال باول: «لقد انخفض التضخم بشكل ملحوظ عن أعلى مستوياته في منتصف عام 2022، لكنه لا يزال مرتفعاً بعض الشيء مقارنةً بهدفنا طويل الأجل البالغ 2%».

استقلال الفيدرالي

وقال إيان فليتشر، عضو المجلس الاستشاري في تحالف «من أجل أمريكا مزدهرة»، إن الأسواق بحاجة إلى الثقة باستقلال الاحتياطي الفيدرالي للحفاظ على انخفاض أسعار الفائدة طويلة الأجل. وأشار فليتشر إلى الرئيس السابق ريتشارد نيكسون، الذي ضغط على رئيس الفيدرالي لخفض أسعار الفائدة قبل انتخابات عام 1972.

وأضاف:«أمريكا، مثل معظم الدول المتقدمة الأخرى، لديها بنك مركزي مستقل من أجل تجنب الضغوط السياسية وخفض أسعار الفائدة الذي سيعود بالنفع على السياسيين فقط الذين يحققون نمواً قصير الأجل».