مظهر شاهين يعبّر في «الحرية»: لا أرغب في أن تكبر ابنتي

منذ أن بَشَّرنا الله بقدومها، اجتمعنا—أنا وأمها وأخوها—نختار لها اسمًا نحبّه ويُشبهنا، حتى استقر القلب والعقل عليه. وبدأنا نناديها به قبل أن تبصر النور، وكأنها كانت تسمعنا من عالم الغيب وتردّ بابتسامة من رحم الرحمة. لم يكن الاسم مجرد حروفٍ نلفظها، بل كان نداءَ حبٍّ خفيّ، وبدايةَ قصةٍ لا تشبه إلا الحكايات التي تُكتب بالحنان. كلما نطقناه، لمحنا ملامحها في خيالنا، وشممنا عبيرها في أرواحنا، وشعرنا أنها بيننا، وإن لم تكن بعد بين أيدينا.
فلما وُلدت، وأشار بعض من حولنا بتغيير الاسم، سبقنا أخوها ببراءته البكر، وقال بثقة لا تعرف المجاملة: “هي أختي، وده اسمها اللي بنناديها بيه من زمان.” عندها أيقنّا أننا لم نكن نختار اسمًا لجنين، بل كنا نُلبس روحًا حلّت فينا عنوان حبٍّ قديم، وذكرى لم تُكتب بعد. فظل الاسم كما هو، لأننا جميعًا شعرنا أنها كانت حاضرة في قلوبنا قبل أن تحضر في أعيننا.
ومنذ اللحظة الأولى التي نظرتُ فيها إلى عينيها، شعرت أن الزمن توقف، وكأن الله منحني فرصةً جديدة للحياة. لم تأتِ فقط لتملأ فراغًا، بل جاءت لتملأ الحياة نفسها. ضحكتها الأولى كانت لي ميلادًا جديدًا، وخطواتها الأولى أعادت إليَّ دهشة الطفولة التي كنت أظنها ولّت بلا رجعة.
كنت أظن أن الطفولة لا تعود، وأنها مرحلة تمر وتنقضي، فإذا بها تعود إليَّ من جديد من خلال ابنتي. عشت معها طفولة ثانية، أكثر صفاءً وصدقًا ودفئًا، طفولةً نراها في عيون أولادنا وهم يندهشون، ويتعلمون، ويخطئون، ويحبوننا بنفس الطريقة التي كنا نحلم بها حين كنا صغارًا. ومن خلال دهشتها، عرفت كم من الجمال يمكن للعين أن تراه حين تتأمل الأشياء كما لو أنها تراها لأول مرة.
جعلتني ابنتي أخفف من ملامح الوقار المرسومة على وجهي، وأمارس إنسانيتي ببساطة وصدق. صارت مرآةً لقلبي، ورفيقةً لروحي، وشريكتي في تفاصيل الحياة الصغيرة، بل وفي معانيها الكبرى. معها شعرت أن الدنيا، رغم ما فيها، لا تزال تحتفظ ببعض الطهر والسكينة، وأن القلب يمكن أن يجد مأواه في ضحكة بريئة أو نظرة ممتنة.
ولأجل كل هذا، أقولها بصدق من أعماقي: مش عاوز بنتي تكبر. ليس لأنني أرفض نضجها، بل لأنني أتمسك بتلك المرحلة التي جمعتني بها طفلًا وأبًا في آنٍ واحد. مرحلة كنت فيها أقرب ما أكون إلى نفسي، وأنقى ما أكون في مشاعري، وأصفى ما عرفت من الطمأنينة. تلك اللحظات التي كنا نلهو فيها معًا بلا شروط، ونتشارك فيها تفاصيل لا تُشترى، لكنها تُحفر في القلب إلى الأبد.
من يُرزق ببنت، فقد رُزق بالرحمة تمشي على الأرض، تمسح على القلب، وتروي الروح. قال الله تعالى:
{يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]
فقدّم الله الإناث في الذكر، تكريمًا وتقديرًا.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
“من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين” (رواه مسلم)،
“ومن ابتُلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن، كن له سترًا من النار” (رواه البخاري).
وفي كل بيت فيه بنت، هناك جنة صغيرة يُنبتها الله من صبر الأب وحنان الأم، تظلل أيامهما، وتمنحهما من السكينة ما لا يُحصى.
البنات لا يُرهقن آباءهن، بل يُخرجْن من أعماقهم أجمل ما فيهم من رحمة واحتواء. يُربّين آباءهن قبل أن يُربّيهن الآباء، ويصنعن من القلوب المتعبة أوطانًا جديدة للحب والاحتضان. نظن أحيانًا أننا نُعلّمهن، فإذا بنا نتعلّم منهن.
تعلّمت من ابنتي الصبر، وتعلّمت الإصغاء من صوتها الهادئ حين تحكي لي يومها، وتعلّمت الحبّ غير المشروط من عناقها المفاجئ دون سبب. علّمتني أن الحنان لا يُنقص من الرجولة، بل يُكملها، وأن الكلمة اللطيفة قد تغيّر يومًا بأكمله، وأن دمعتها ليست مجرد حزنٍ عابر، بل جرس إنذارٍ لحال قلبي.
أصبحت أكثر وعيًا بتفاصيل صغيرة لم أكن ألتفت إليها من قبل: بدرجة حرارة غرفتها، بترتيب لعبها، بشكل ضفيرتها، وحتى بابتسامتها الصباحية حين تستيقظ وتناديني، فترتّب الكلمة في داخلي كل فوضى اليوم. صارت هي مرآتي، وجسرًا بيني وبين ذاتي التي افتقدتها طويلًا.
وحين تناديني بـ”بابا”، لا أسمعها بأذني فقط، بل أشعر أن الكلمة تُربّت على قلبي، وتمنحني طمأنينة لا توصف. في ضحكتها حياة، وفي مشيتها موسيقى، وفي سؤالها عني حين أغيب، معنى للوجود لا يعرفه إلا من ذاق نعمة البنت. هي ليست فقط امتدادًا لنسلي، بل امتداد لروحي… الجزء الذي أعاد إليّ إنسانيتي، وأعاد ترتيب مشاعري.
واليوم فقط، فهمت لماذا يبكي الآباء حين يسلّمون بناتهم لعُرسانهن. رأيتهم كثيرًا يبكون، أو يُخفون دموعهم، أو تتقطّع أصواتهم وهم يقولون للعريس: “خُذها، بارك الله لك فيها.” لم أكن أفهم عمق هذا المشهد من قبل، حتى عشته بقلب الأب، ووقفت على عتبة الوجع الجميل.
فالأب حين يسلّم يد ابنته، لا يُسلّم يدًا فقط، بل يُسلّم عمرًا من الذكريات، ويُودّع بيتًا كانت فيه كل التفاصيل تبدأ باسمها. يُسلّم صوتًا اعتاد أن يوقظه، وضحكة كانت تُحيي يومه، وخطى كانت تملأ البيت دفئًا، وروحًا كانت تؤنسه في وحدته. يغلق باب غرفتها، وكأنه يُغلق فصلاً لا يُعوّض، ويتراجع في صمت، كمن يترك قلبه خلفه.
لا يرى فستان الزفاف بقدر ما يرى أول مرة حملها فيها، وأول مرة نطقت، وأول مرة بكت على صدره. تمر كل تلك اللحظات أمامه، في لحظة واحدة، كأنها نهر من الذكريات يجرفه، فلا يقوى إلا على البكاء الصامت.
لهذا، أقول لكل أب: لا تؤجّل لحظاتك. لا تنتظر حتى تكبر لتُظهر حبك. من رُزق ببنت، رُزق بكنزٍ لا يُقدّر بثمن. كن قريبًا منها الآن، فكل لحظة تمرّ لن تعود، وكل ابتسامة تُهملها قد لا تتكرر.
امنحها دفئك، وامنح نفسك فرصة أن تعيش طفولتك من جديد من خلال عينيها. ولا تخجل من الحنان، فإن البنت لا تحتاج إلى مالٍ كثير، بقدر ما تحتاج إلى قلبٍ كبير.
وأنا، أبٌ وجد في ابنته مرآته وسكينته، أقولها بصدق:
مش عاوز بنتي تكبر…
لأنها النعمة التي ردّت إليّ نفسي، وأعادتني إنسانًا، وأبقت في قلبي طُهر الأيام الأولى.
ولأن الحديث عن البنات قد يُلامس قلوبًا لم تُرزق بهن، أو لم تُرزق بأبناء أصلًا، فإننا لا ننسى أصحاب القلوب المؤمنة الذين رضوا بحكم الله، واحتسبوا حرمانهم عند مَن لا يُخطئ ولا ينسى. فكم من قلبٍ لم يُرزق ولدًا، لكنه رُزق من الرحمة ما فاق رحمة الآباء، وكم من نفسٍ لم تحمل طفلًا في حضنها، لكنها حملت قلوبًا في دعائها، ورعت أيتامًا، أو علّمت، أو سقت أرواحًا عطشى بالحب والحنان.
وليعلم كل من حُرم نعمة البنين، أن الله ما أخذ إلا ليعوض، وما حرم إلا ليدّخر، وما قدّر إلا لحكمة، {رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا.”
وجعل الله في الصبر على البلاء رفعةً لا يدركها إلا الصابرون، وفي الرضا بقدره منزلةً عظيمة لا يبلغها إلا الموقنون.
نسأل الله أن يرزق كل مشتاق، ويؤنس كل قلب، ويجبر كل خاطر، ويجعلنا جميعًا من أهل الرضا واليقين، ويُديم علينا نعمه، ويجعلنا ممن إذا أُعطي شكر، وإذا حُرم صبر، وإذا ابتُلي رضِي.