محمود صالح يكتب لـ«الحرية»: «حت نوب».. الأرض التي لم تُستغل جيداً

محمود صالح يكتب لـ«الحرية»: «حت نوب».. الأرض التي لم تُستغل جيداً

في قلب الصحراء الغربية، وعلى امتداد ما يقرب من 44% من مساحة مصر تقع محافظة الوادي الجديد، تلك الرقعة الشاسعة التي وصفها المصري القديم بـ”حت نوب” – أي “بيت الذهب”، لما تحويه من ثروات طبيعية، وكنوز أثرية، وموارد مائية وأرضية لا تزال غائبة عن خريطة الاستثمار والتنمية الشاملة. وبينما تغيب الكثافة السكانية ويُحجم رأس المال الخاص، تظل هذه الأرض تحمل في طيّاتها فرصة ضائعة، لا تعوّض، لإعادة صياغة معادلة التنمية في مصر على أسس أكثر عدالة وتوازنًا.

تشير التقديرات الرسمية إلى أن الوادي الجديد يمتد على مساحة تزيد عن 440 ألف كيلومتر مربع، ويقطنها نحو 265 ألف نسمة فقط، بما يجعلها من أقل المحافظات كثافة سكانية في البلاد. ومع ذلك، فهي من أغنى المحافظات من حيث الموارد الطبيعية؛ إذ تمتلك واحدًا من أكبر الخزانات الجوفية في القارة الإفريقية – خزان الحجر الرملي النوبي – الذي يوفّر إمكانيات زراعية هائلة، لا سيما في ظل المناخ الجاف ووفرة الأراضي الصالحة للزراعة. وتُعد واحات الداخلة والخارجة والفرافرة من أبرز المناطق المؤهلة لزراعة المحاصيل الاستراتيجية، مثل القمح، والبلح، والنباتات الطبية والعطرية، والتي يمكن أن تتحول إلى قاعدة لصناعات غذائية وتصديرية عالية القيمة.

وعلى الصعيد السياحي، تضم المحافظة مواقع أثرية وتاريخية استثنائية، مثل معبد هيبس ومدافن البجوات، إلى جانب طبيعة بيئية نادرة تصلح لتطوير السياحة البيئية والعلاجية والروحية. ومع ذلك، لم تُستثمر هذه الأصول بما يتناسب مع قيمتها، في ظل غياب البنية التحتية المناسبة، ونقص الخدمات الفندقية واللوجستية، وعدم إشراك المجتمع المحلي في خطط التنمية السياحية.

إن رؤية أمانة حزب العدل بالمحافظة تنطلق من قناعة بأن تنمية الوادي الجديد تمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة المصرية على تحقيق العدالة الجغرافية. فالمسألة ليست فقط في ضخ استثمارات مركزية من أعلى، بل في إعادة توزيع الأدوار والمسؤوليات، وتمكين المجتمعات القروية والريفية بالمحافظة من صياغة أولوياتها، وتشجيع القطاع الخاص المحلي والأهلي على المبادرة، عبر تهيئة مناخ جاذب، يزيل الحواجز البيروقراطية، ويقدم حوافز حقيقية للإنتاج، لا للاحتكار.

يمكن للوادي الجديد أن يكون نموذجًا لاقتصاد إنتاجي جديد، يرتكز على التصنيع الزراعي، والسياحة المستدامة، والخدمات اللوجستية العابرة للحدود، خاصة مع قربه من ليبيا، وتقاطعه مع ممرات التنمية الجديدة مثل طريق “توشكى – شرق العوينات”، ومحور “القاهرة – السلوم”. وهذا يتطلب أولًا تطوير البنية التحتية الذكية، من شبكات طرق حديثة إلى طاقة متجددة، وتحول رقمي يربط الواحات ببعضها وبالعاصمة، ويسهل ممارسة الأعمال والاستثمار الريفي.

ومن الضروري كذلك إرساء نماذج تنموية غير تقليدية، تقوم على دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة القائمة على الموارد المحلية، وتقديم خدمات تمويل ميسرة، وتشجيع سلاسل القيمة في قطاعات مثل التمور والعسل والأعشاب، وتدريب الشباب على المهارات الحديثة في مجالات الزراعة والسياحة والاقتصاد الأخضر. كما أن تعزيز الصلاحيات المحلية بالمحافظة، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال مجالس منتخبة فعلية ولقاءات تشاور مجتمعية واسعة ، تضمن استجابة الخطط للتحديات الواقعية لكل واحة ومركز.

إن الوقت لم يعد في صالح المزيد من التأجيل. فـ”حت نوب”، تلك الأرض التي سماها المصري القديم بيت الذهب، لا يجب أن تبقى مجرد سجل جغرافي أو تراث منسي. إنها فرصة مصر الكبرى لإعادة التوازن بين المركز والأطراف، بين وادي النيل وصحرائه، بين الحاضر والتاريخ. وإن لم نحسن اغتنام هذه الفرصة الآن، فسنكون أمام خسارة مصرية

حقيقية، لفرصة لا تتكرر، ولأرض تستحق أكثر من الإهمال والنسيان.