حسن غريب يكتب: خلال فترة الانتخابات

حسن غريب يكتب: خلال فترة الانتخابات

من المقولات التاريخية لجمال عبدالناصر، عندما سُئل عن الانتخابات والديمقراطية، قال: «لا حرية لجائع»، وهى مقولة أظنها ما زالت صالحة للاستخدام بعد 50 عامًا من رحيله.

تأملت وتوقفت كثيرًا أمام هذه الجملة، مترجمًا إياها بأن المواطن لا بد أن يحصل على الحد الأدنى من مأكله ومشربه ومسكنه ووظيفته قبل أن نطلب منه الاختيار، حتى لا يصبح هو نفسه بضاعة فى مزاد، ويبيع صوته بثمن بخس، ويندم بعدها سنوات وسنوات على فاتورة هذا الاختيار.

ولكن الحقيقة أن الأمر ليس مرتبطًا بالمستوى المادى فحسب، فمقولة عبدالناصر هى إجابة واضحة وتفسير صادم وحاسم لما يجرى وسيجرى فى المشهد الانتخابى، بعدما كشفت أوراق التوت عن عورات بعض المدّعين الذين أكلوا على موائد كل المرشحين؛ تارة بتقاضى ثمن خيانتهم، وتارة بالتضليل والتعتيم، وتارة بالكذب والادعاء الباطل.

وللأسف الشديد، لم يصلوا إلى مرحلة «المحتاجين» ليبدلوا مواقفهم أمام كرتونة أو خمسمائة جنيه، فأحدهم سبّاك يظهر عليه الأثر المادى، ومعه أحد المعلّمين الذى كان يتباكى لشدة احتياجه المال وإنفاقه على كيفه وملذاته فى المقاهى، زاعمًا أنه شاعر وناقد، والحقيقة أنه يشبه الحمل الكاذب: انتفاخ فى الحرام، وإنفاق من مال النفاق والوشاية والمدالسة. وثالثهم أفّاق جعل من موسم الانتخابات مغنمًا يتربح منه ويدعى الشرف، وهو فى قمة النخاسة، ومعه مثيله، فالشىء من معدنه لا يُستغرب.

وإلّا فحكاية (السيد) – وهو ليس بسيد، ولكنه خادم وعبد ذليل – الذى أصبح سُبّة فى جبين التعليم والمعلمين. وآخرون لا داعى لذكرهم، ولكن ستحاسبهم الأجيال القادمة وضمائرهم، إن كان عندهم ضمائر أصلًا، لأنه إذا مات الضمير، وكان الإنسان خادمًا ذليلًا للغير، تكون النتيجة الطبيعية أن يكون خائنًا بامتياز.

فالخيانة يا أهل الخيانة، باختصار، وسيلة الجبناء لا الأقوياء، الذين يواجهون الأنذال فى كل زمان ومكان. ولأن الخيانة، يا أهل الخيانة، تخريب للنفس البشرية وضد طبيعة الإنسان، وحتى الحيوان، أيها الأقزام الجدد.

لذلك لم أستبعد أن يكون تعبير عبدالناصر «لا حرية لجائع» غير مقتصر على بعض الفقراء فقط، ولكنه يطال أحيانًا بعض الأغنياء الذين ارتشوا بطرق غير مشروعة، ولكن ستُفتح ملفاتهم قريبًا أمام أجهزة التحقيق للبحث فى أعمالهم غير المشروعة واقتنائهم أشياء محرمة بحكم القانون. فهؤلاء لن يفلتوا من العدالة فى الدنيا ولا فى الآخرة، إلا أن العدالة الإنسانية هى التى تعذب وتؤرق هؤلاء الفاسدين والمفسدين الجدد.

وتحضرنى هنا أيضًا مقولة توماس جريشام، مستشار ملكة بريطانيا فى أحد العصور السابقة، إنه فى وقت الأزمات والمحن «تطرد العملة الرديئة نظيرتها الجيدة من السوق»، ولكن لبعض الوقت، حتى يتم كشف زيفها وعدم صلاحيتها. وهكذا فإن التطور الإنسانى هو تطور نسبى وليس مطلقًا، مرتبط بالزمن والوقت.

قد يستمر البرلمان الجديد لمدة خمس سنوات، أو تقضى المحكمة بحلّه، ولكن الثابت أن الخائن سيدفع ثمن الخيانة والغش والتدليس، لأن الأيام والسنوات ستكشف ادعاءات بعض الأقزام والعشوائيات السياسية التى كانت تعمل كعبيد وخدم لآخرين، وباعوا الحقيقة أمام صندوق الكراهية والحقد على النجاح.

كما ستكشف الأيام عورات أشخاص هم فى مزبلة التاريخ وفى بئر الخيانة، لأنهم جاءوا من المجهول الاجتماعى، ولم يتربوا فى بيوتهم على مبادئ وكرامة الإنسان أصلًا، فهم لا يعرفون خُلقًا ولا حتى دينًا، لأن ديننا الحنيف اعتبر كرامة الإنسان من أسمى معانى الخلق، حتى إن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم قال: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

هذه هى الحقيقة التى طالما ينحرف عنها هؤلاء المضلّلون والأفّاقون والأفاكون الذين روّجوا شائعات واتهامات بالباطل، وتنفسوا الكذب حتى صدّقوا أنفسهم، وهم لا قيمة لهم ولا اعتبار داخل بيوتهم أصلًا، لأن فاقد الشىء لا يعطيه.

هذه تغريدة ووقفة مع الشرفاء والمخلصين الذين تمتلئ بهم مصر الحبيبة، ورسالة لكل صوت أو ضمير حى حافظ على صوته ورفض أن يتقاضى ثمنه فى زمن أشباه الرجال وأشباه المواقف.

فالأيام مدرسة والإنسان يتعلم فيها، ولقد تعلّمنا من التاريخ أنه عندما سُئل أحد مستشارى أكبر جهاز أمنى فى الاتحاد السوفيتى بعد تفكّكه: «لماذا سقط وتفكك الاتحاد؟»، جاءت إجابته الصادمة: «كنا نختار الفاشلين على حساب الأكفاء».

ستبقى مصر أبية بشعبها وجيشها وشرطتها وقضائها وأزهرها وكنيستها، عصية على السقوط في بئر التقسيم أو التدويل أو الخيانة أو التضليل.