حسام بدراوي يكتب لـ«الحرية»: الدين، الجهل، والاستبداد.. هزائم تُعانيها جميع الشعارات

حسام بدراوي يكتب لـ«الحرية»: الدين، الجهل، والاستبداد.. هزائم تُعانيها جميع الشعارات

في قرنٍ واحد، جُرّب في العالم العربي والإسلامي كل شيء..

جُرّبت الملكيات والجمهوريات، الأنظمة الليبرالية واليسارية، الحركات الشعبوية والإسلاموية، الدساتير الحديثة والمراسيم السلطانية، الحكم العسكري والحكم الديني… وتحت كل هذه الرايات، انهزمنا.

لم تنتصر أمة في خطابها مثلما فعلنا،ولم تُهزم أمة في واقعها مثلما هُزمنا.

كيف يمكن لأمة تملك هذا المخزون الهائل من الثروة المالية المتراكمة، والقدرة البشرية الكامنة، والموقع الجغرافي الاستراتيجي، والتراث الثقافي والحضاري العميق، أن تتعثر مرارًا وتكرارًا، وتخسر في معارك السلم أكثر مما خسرت في معارك الحرب؟

الجواب ليس في الراية، بل في العقل الذي حملها.

فكل راية، حين تُرفع بعقل مغلق، أو نفس مشروخة، أو ضمير مُتكلّس، تتحوّل إلى ستارٍ للهزيمة، لا إلى راية نصر.

جُرّبت الليبرالية… فانتهت إلى تغريبٍ بلا حرية.

جُرّبت اليسارية… فتحوّلت إلى شعارات بلا خبز.

جُرّبت القومية… فانقلبت إلى تمجيدٍ للذات ومحوٍ للآخر.

جُرّبت الإسلاموية… فاستُبدل جوهر الدين بمظهره، والرحمة بالوصاية.

جُرّبت العسكرية… فأمّنت الحدود وقيّدت العقول.

جُرّبت الحداثة… ولكن دون تحديث الإنسان.

أين الخلل إذن؟

الخلل في العقل الجمعي الذي لم يتحرر.

في ثقافة تمجيد الزعيم ، لا احترام الفكرة.

في تعليم يلقّن، لا يُعلّم.

في إعلام يصفّق، لا ينتقد.

في اقتصاد يُوزّع الريع، لا يُنتج الثروة.

في دين يُستخدم كأداة سلطة، لا كنبع نور.

في قضاء يخاف، لا يحكم.

وفي شعب، تعب من الحلم، فآثر السلامة.

ليست المشكلة أننا أخفقنا تحت راية واحدة، بل أننا أخفقنا تحت كل الرايات.

وما لم نُراجع العقل الذي يصوغ الأيديولوجيا، ويصنع النظام، ويحمل السلاح أو القلم أو المصحف،

فإننا سنظل ندور في حلقة مفرغة:

نُسقِط الراية، لنرفع راية أخرى… ثم ننهزم من جديد.

لابد من أن هناك عامل مشترك يمكن أن نعتبره مركز الإخفاق المتكرر لدى شعوبنا المقهورة. لكن لا يمكن تلخيصه بكلمة واحدة مثل “الدين” أو “الجهل” دون تفكيك عميق

هل هو الدين؟

الدين الإسلامي، في جوهره، كان محركًا حضاريًا هائلًا في بداياته، أسّس لنهضة علمية وأخلاقية وفكرية كبرى. لكن التطبيق التاريخي للدين انحرف شيئًا فشيئًا عن روحه ،تحوّل من دعوة للبحث والتفكير إلى منظومة طاعة وانغلاق ، من تحفيز للعقل والتأمل إلى منع النقد والتقديس المفرط للرجال ، من أخلاق فردية رفيعة إلى منظومة سلطوية توظف الدين لخدمة الحاكم.

هل هو الجهل؟

الجهل ليس فقط غياب المعرفة، بل غياب المنهج في التفكير.لدينا جامعات ومؤسسات تعليم ، لكن لا يوجد عقل نقدي. لدينا آلاف الخطباء والدعاة، لكن لا يوجد وعي تاريخي أو تفكير فلسفي. لدينا إعلام، لكن لا نملك ثقافة حوار.

الجهل الذي نعانيه مركّب، جهل بالذات (لا نعرف تاريخنا الحقيقي، ولا نفهم نقاط ضعفنا).

جهل بالآخر (نرى الغرب إما شيطانًا أو مخلّصًا).

وجهل بأدوات التغيير.

إذن ما هو مركز الإخفاق؟

إن أردنا عبارة دقيقة، فإن مركز الإخفاق في رأيي هو “تعطيل العقل الجمعي عبر تحالف بين الاستبداد والجمود الديني”.

هذا التحالف جعل المجتمع خائفًا من التفكير، حوّل الدين إلى أداة طاعة.قمع المبادرة الفردية وكسر العلاقة بين المواطن والدولة ، وخلق ثقافة اتكالية، تنتظر المخلّص الخارجي، أو تلعن المؤامرة.

في المقابل، الأمم التي نهضت كسّرت هذا التحالف حرّرت العقل من الخوف،حرّرت الدين من التسييس،و حرّرت الدولة من تقديس الزعيم،وحرّرت المواطن من عبودية القدَر المفروض.

رؤية للمستقبل: من الرايات إلى الإنسان

إن التغيير الحقيقي لا يبدأ من الراية التي نرفعها، بل من الإنسان الذي يحملها.

فلا نهضة بلا وعي، ولا حرية بلا عقل ناقد، ولا عدالة بلا ضمير حي، ولا تنمية بلا معرفة.

مستقبلنا لا يصنعه انقلابٌ سياسي، أو خطابٌ ثوري، أو دعوة دينية، أو خطط خمسية فوقية.

مستقبلنا يصنعه جيل جديد، يحمل في عقله أدوات العلم، وفي قلبه جذوة الإيمان بالكرامة، وفي يده مهارات العصر.

علينا أن نُعيد تعريف مفهوم القوة،  ليست القوة في السلاح، بل في إنتاج المعرفة.

ليست في امتلاك المال، بل في تحويله إلى استثمار في الإنسان و ليست في الجيوش، بل في مؤسسات تحمي القانون.

القوة ليست في كثرة الشعارات، بل في نزاهة المؤسسات.

نحتاج إلى ثورة عقلية، لا عسكرية.

إلى تجديد في الفهم، لا مجرد تكرار في المعتقد.

إلى تعليم يُعلّم الطفل كيف يُفكّر، لا بماذا يفكّر.

إلى فصل حقيقي بين ما لله وما لقيصر، حيث تبقى الروح متصلة بالسماء، لكن الأوطان تُدار بعقلٍ أرضي راشد.

المطلوب ليس استيراد نموذج غربي، ولا استحضار ماضٍ ذهبي، بل خلق نموذج خاص بنا، يستلهم من القيم، وينفتح على العصر، ويؤمن بأن الإنسان هو محور التقدم وغايته.

فقط عندما يصبح “المواطن” هو المشروع الأول، وعندما يكون العدل سابقًا على الأمن، والعلم أسبق من الولاء، والحرية هي الحاضنة للهوية،عندها فقط… يمكن أن نرفع راية لا تُهزم.

علينا أن لا نكرر عناوين إنشائية مثل “العدالة” و”الحرية” و”الوعي”، بل أن نقترب من السؤال الأصعب: كيف نخرج من المأزق؟

أي ما هي آليات التحول لا مجرد مبادئه؟.

في هذا السياق، يمكنني أن أضيف  طرح نموذج عملي، واقعي وقابل للتكيّف، نستلهمه من تجارب شعوب نهضت بعد عقود من الإخفاق، دون أن ننقل عنها تجربة مستنسخة.

كيف نخرج من المأزق؟… نحو نموذج للتحول

الخروج من المأزق لا يبدأ بإعلان النوايا، بل بتغيير المنهج الذي يُنتج السياسات، ويصوغ العلاقات بين السلطة والمجتمع، وبين المواطن والدولة، وبين الإنسان ونفسه.

لا توجد وصفة سحرية، لكن هناك نماذج يمكن استخلاص عبرها خطوات واقعية قابلة للتطبيق.

ولعل أقرب ما يمكن أن نستلهمه هو ما حدث في تجارب مثل ماليزيا في عهد مهاتير محمد، أو رواندا بعد الإبادة الجماعية، أو حتى كوريا الجنوبية بعد الحرب.

ما يجمع بينها لم يكن الأيديولوجيا، بل  رؤية وطنية موحدة تتجاوز النخب وتصل إلى الناس.
لا يمكن تغيير أمة دون إشراك شعبها في الحلم.

نحن بحاجة إلى مشروع وطني، واضح، محدد بزمن، لا شعاراتي، فيتبنّاه المجتمع كله.

إصلاح التعليم أولاً… وبلا انتظار
لم تُنهض كوريا الجنوبية اقتصادها أولاً، بل بدأت بإصلاح التعليم من القاعدة، وراكمت المعرفة خلال جيلين.
عندنا، التعليم إما مُسيّس، أو تقليدي عقيم… والخروج يبدأ من هنا، ولو تطلّب ذلك 15 عامًا دون نتائج سياسية فورية

طريقنا هو مكافحة الفساد… لا بالعقاب فقط، بل بتقليل فرص الفساد
رواندا لم تكتفِ بسجن الفاسدين، بل أعادت تصميم الجهاز البيروقراطي لتقليل التماس بين المواطن والموظف، واعتمدت الشفافية الرقمية.
نحن بحاجة إلى أدوات جديدة تقتل الفساد بقطع شرايينه، لا فقط برفع الصوت ضده.

واجبنا بناء طبقة وسطى حقيقية عبر تمكين اقتصادي وليس فقط توزيع دعم فالمجتمعات لا تتغير إذا ظلت بين فقراء مسحوقين وأثرياء معزولين. الطبقة الوسطى هي العقل المنتج، وإذا لم نخلق اقتصادًا يمكّنها، فسنظل في مأزق الانفجار أو الاستسلام.

وجهة نظري هي تحول تدريجي مدروس، لا صدمة عشوائية ولا ثورة هائجة.

تجربة أوروبا الشرقية أو جنوب إفريقيا علّمتنا أن الانتقال من نظام مأزوم إلى مستقبل ناجح، لا يتم دفعة واحدة، بل عبر خطوات متدرجة، تفاوضية، تحفظ الدولة وتحولها.

إن النموذج الذي نبحث عنه ليس في كتاب مستورد، ولا في زعيم مُخلِّص، بل في آلية وطنية تشاركية لصناعة التغيير، تقوده العقول لا الشعارات، وتُحاسَب فيه السلطة لا تُقدَّس، ويُستثمر في الإنسان لا يُستخدم.

حين نبدأ هذه المسيرة، حتى لو بخطوة صغيرة، سنكون قد خرجنا من المأزق… لا بالهتاف، بل بالفعل المدروس والمعلن ووضع معايير قياس نتائجه.

في النهاية هي رشاد ادارة الدولة ، التي تستلزم حكم قوي اهم أركانه العدالة  وتداول السلطه والفصل بين  السلطات.