سليم العدوي يكتب: “انهضوا قبل فوات الأوان!”

عنوانٌ صادم لكتابٍ نادر يضم مجموعة مقالات للكاتب الكبير وحيد حامد، صدر في طبعة يتيمة سنة ١٩٩٥، ولم يُعَد نشره منذ ذلك الحين، ولكنه لم يكن مجرد عنوانٍ مثير، بل كان صرخةً مدوّية وتحذيرًا مبكرًا من أحد أدقّ من فهموا الواقع السياسي والاجتماعي في مصر.
اشتهر وحيد حامد بقدرته الفريدة على استشراف المستقبل في أعماله وكتاباته، برؤيةٍ نافذة سبقت الجميع، ولم تكن نبوءاته مجرد اجتهادات فكرية أو تكهنات عابرة، بل خلاصة قراءةٍ متبصّرة للتاريخ، واستيعاب عميق للحاضر، وتجربة حقيقية في تماسٍ مباشر مع المجتمع، تحققت لاحقًا كما لو كانت سيناريوهات مكتوبة سلفًا للمستقبل. يكفي أن نستعيد فيلم “طيور الظلام”، تلك التحفة السينمائية الخالدة، والعلامة الفارقة في السينما المصرية، التي سبقت عصرها في رصد تحالف الفساد مع التطرف، وصراع المصالح بين من يحتكرون السلطة باسم الدولة، ومن يتسللون إليها باسم الدين، وقد رأيناه يتحقق واقعًا بأدقّ تفاصيله. واليوم، وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة عقود، تبدو تلك الصرخة أكثر إلحاحًا من أي وقتٍ مضى.
منذ أسابيع، تم الإعلان عن القبض على خلية إرهابية تابعة لحركة “حسم”، وهي ذراع مسلّح لجماعة الإخوان، وبكل تأكيد هذا إنجاز أمني يُحسب لوزارة الداخلية، ويؤكد يقظة الأجهزة ويبعث برسالة حاسمة مفادها أن الدولة المصرية لن تتهاون مع من يهدد أمنها واستقرارها. ولكن ما يلفت الانتباه حقًا، ويستحق التأمل والتساؤل في الخبر، هو أن أغلب عناصرها من خريجي جامعة الأزهر، مما يعيد إلى الأذهان تصريح شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، بأن “الأزهر لم يُخرّج أي قيادي إرهابي”، وهو تصريح يتناقض، بكل أسف، مع الواقع. كما يذكرنا بحديث الرئيس ومناشداته المتكررة في مراحل سابقة، بضرورة تجديد الفكر والخطاب الديني، والتصدي لجذور التطرف والإرهاب، والتي لم تجد طريقها إلى التنفيذ، بل على العكس، جاءت السياسات والممارسات لتعكس اتجاهًا مناقضًا تمامًا لتلك الدعوات.
آخرها، وبعد أيامٍ معدودة فقط من ضبط الخلية، تم توقيع بروتوكول تعاون بين وزارتي الأوقاف والتربية والتعليم لإطلاق مشروع الحضانات داخل المساجد، وهو توظيف لدور العبادة في أدوار لا تليق بها، وتكريس للطائفية والفصل الديني منذ السنوات الأولى من الطفولة، حيث تتشكّل المفاهيم الأولية وتنغرس القيم والمبادئ الأساسية. وليس هذا فحسب، بل يثير الأمر تساؤلات وإشكاليات جدّية حول طبيعة الخطاب الديني والتربوي الذي سيتلقاه الأطفال في مثل هذه الحضانات، فإذا كانت نفس الأفكار والمناهج التي خرج من تحت عباءتها المتشددون والإرهابيون، فهذه كارثة ومصيبة.
وللأسف الشديد، هذا القرار لا يأتي منفردًا، بل هو جزء من توجّه أوسع يتسلل إلى مفاصل الدولة والمجتمع، ويدفع رويدًا رويدًا نحو تغليب ملامح الدولة الدينية على حساب الدولة المدنية. والمشكلة، كما يجب أن ندرك، تتجاوز حدود الأزهر بكثير، وهي أعمق وأشمل من أن تُختزل في مؤسسة بعينها؛ فالأزهر، شأنه شأن غيره من المؤسسات والأفراد، ليس بمعزل عن واقع المجتمع، بل يتأثر بتحولاته ويعكس ملامحه.
فعندما كان المجتمع المصري منفتحًا، كان الأزهر منارةً حقيقية للعلم، وكانت رموزه من الشيوخ والعلماء مستنيرين في الفكر، منفتحين على العالم، يتفاعلون مع قضايا العصر ويتحدثون لغته، ويجسّدون سماحة الدين ورحابته. كانوا يشاهدون الأعمال الفنية، ويستمعون إلى الموسيقى، ويقرؤون الفلسفة والأدب، ويخوضون النقاشات الفكرية، لا يرون في المعرفة خطرًا، ولا في السؤال تهديدًا للعقيدة، ويدركون أن الدين لا يتنافى مع الإبداع، بل يتكامل معه في خدمة العقل والوجدان. كان هناك تناغمٌ طبيعي بين الدين والعلم ومناحي الحياة المختلفة، ولم يكن التدين مرادفًا للانغلاق أو الانفصال عن الواقع.
أما اليوم، فقد أصبح السواد الأعظم من المجتمع أسيرًا لفكرٍ وخطابٍ سلفي متشدد، بات هو السائد والمهيمن، في انعكاس مباشر لحالة الردّة الحضارية التي نعيشها، حيث تحاصر العقول بأسوار الجهل والتعصّب.
وإذا أردنا أن نُدرك ونستوعب حجم الخطر الذي بلغناه، فما علينا إلا أن نتابع أبرز القضايا التي تصدّرت الرأي العام المصري خلال الأسابيع القليلة الماضية، لنرى عن قرب مدى الانحدار والتوتر المجتمعي الذي نعيشه.
على سبيل المثال لا الحصر:
واقعة الاعتداء على المدرسة المسيحية التي منعت الغش أثناء امتحانات الثانوية العامة وسبّها بأبشع الألفاظ والعبارات الطائفية المنحطّة.
حملة الهجوم على الدكتور مدحت العدل، لمجرّد تعليق عبّر فيه عن حزنه وحسرته لاعتزال حفيدة كوكب الشرق أم كلثوم الغناء وارتدائها الحجاب، متعجبًا من أن تصدر هذه الخطوة تحديدًا عن حفيدة سيدة الغناء العربي.
الجدل الذي أثير حول الترحم على الفنان القدير لطفي لبيب، والموسيقار اللبناني الكبير زياد الرحباني، وهو الجدل نفسه الذي يتكرّر مع وفاة أي شخصية غير مسلمة، حيث تنصّب قطاعات من المجتمع أنفسها وكلاء عن الله يمنحون الرحمة أو يمنعونها، وكأن مصير الإنسان في الآخرة بات مرهونًا بتعليقاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لا بعلم الله وعدله ورحمته. مثل الجدل العبثي الذي أُثير سابقًا أكثر من مرة حول مصير الدكتور العظيم مجدي يعقوب، وهل سيدخل الجنة أم النار.
الهجوم على نجم كرة القدم محمد صلاح لمشاركته مع فريقه ليفربول في برنامج تدريبي تضمّن جلسة تأمّل (Meditation) داخل معبد بوذي، وهي ممارسة ذهنية لا علاقة لها بالعقيدة أو الطقوس الدينية، فجاءت أيضًا، كما أصبحت العادة، محاكمات افتراضية، وحملات سبّ وتكفير. تمامًا كما حدث معه سابقًا حين صرّح بأنه لا يشرب الكحول لأنه لا يحب، فثاروا عليه لأنه لم يقل لأنها حرام. وكما لم يَسلم كذلك حين نشر صورًا له مع أسرته بجانب شجرة كريسماس في لقطة احتفالية عادية، فقوبل باتهامات وكأنه ارتدّ عن دينه.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: من الأفضل عند الله سبحانه وتعالى وأقرب إلى جوهر الدين؟ مدرسة منعت الغش أثناء الامتحانات، وتمسكت بالأمانة والضمير، أم الذين اعتدوا عليها وسبّوها لأنهم أرادوا الغش واعتبروه حقًا؟
ممثل قدير مثل لطفي لبيب، وبطل من أبطال حرب أكتوبر، أم هؤلاء الذين يُحرّمون الترحم عليه؟
دكتور مجدي يعقوب، الذي أفنى عمره في إنقاذ القلوب، وأنشأ واحدًا من أكبر وأهم معاهد القلب في الشرق الأوسط لعلاج الأطفال والمرضى بالمجان، وعلّم الأجيال، أم من يجلسون خلف الشاشات، ينصّبون أنفسهم آلهة ويقررون مصيره؟
محمد صلاح، أحد أهم لاعبي كرة القدم في مصر والعالم، قدّم صورة إيجابية عن العرب والمسلمين، بعد سنوات من ربطهم بالإرهاب والتخلف والرجعية، أم من يُهاجمونه ويُزايدون عليه، فقط لأنه لا يعبّر عن تدينه بالصورة التي ترضيهم، ولا يسير على المقاس الفكري والشكلي الذي رسموه في أذهانهم؟
وكل هذه الوقائع لم تحدث على مدار عام، بل خلال أقل من شهر واحد فقط، وهي لا تعبّر عن استثناءات، بل تكشف عن تحوّل حاد في العقل الجمعي المصري، وفي المزاج العام المجتمعي، حيث تسود قيم التشدد، والمزايدة، وإطلاق الأحكام المسبقة، ورفض الآخر، في مشاهد تعكس حالة النفاق المجتمعي، تُستَخدم فيها مظاهر التدين والشعارات الدينية كقناع لستر الحقد، والكراهية، والانحدار الأخلاقي، والفشل.
بعد خروج ملايين المصريين في 30 يونيو 2013 ضد حكم الإخوان، وسقوطهم، اعتقد كثيرون أننا قد تخلّصنا من هذا التيار، وأن الخطر قد زال، وأننا أغلقنا آخر أبواب الظلام، لكنهم لم يدركوا أن المعركة لم تكن مع جماعة الإخوان فقط، بل مع فكر متجذّر. تخلّصنا من الواجهة، نعم، لكن الجذور بقيت، العقول التي خُدعت لم تُشفَ بعد، والخطاب نفسه عاد يتسلّل، لكن هذه المرة بشكل أخطر، مثل فيروس متحوّر، حيث يُعاد إنتاج الجهل والتطرّف في صورة عصرية، وبأقنعة مختلفة، ولكن بنفس المضمون.
وفي ظل تقاعس الدولة وتواطؤ النخب بالصمت والعجز، وتراجع دور المثقفين، بات المجتمع فريسةً سهلةً لهذا الفكر؛ ليغرس أنيابه في أعماقه، ويتوغّل، ويفرض سيطرته الكاملة.
وهنا تعود صرخة وحيد حامد لتقرع الأذهان:
“استيقظوا أو موتوا!”،
صرخة لا تزال قادرة على زلزلة الوعي، وبثّ الإحساس بالخطر والمسؤولية، لو أننا تجرّأنا على إعادة قراءتها، لا كذكرى أدبية، بل كمانيفستو تحذيري لمستقبل لا يزال مهددًا بالتكرار، وسوريا، وليبيا، والعراق ليست أمثلة بعيدة.
فإما أن نستيقظ على وعي جديد، أو نُساق نحو مصير سبق أن عشناه، ورأيناه بأعيننا.
فهل نستيقظ أخيرًا؟
الزمن لا ينتظر، والتاريخ لا يُسامح.
استيقظوا… قبل أن يفوت الأوان!