منى عبد الراضي تكتب: غسل الأموال والشخصيات الشهيرة على تيك توك

في السنوات الأخيرة، ومع تصاعد دور وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل الوعي المجتمعي وخلق نجوم من قلب الحياة اليومية، أصبح من الشائع أن نسمع عن مشاهير صعدوا بسرعة الصاروخ بفضل مقاطع فيديو لا تتعدى الثواني، لكنهم سرعان ما يسقطون في فخ القانون، سواء بتهم الإيحاءات الجنسية، أو الاتجار بالبشر، أو حتى غسيل الأموال.
والسؤال الذي يفرض نفسه: ما هو غسيل الأموال؟ وهل يمكن لمشاهير التيك توك بالفعل أن يكونوا متورطين في مثل هذه الجرائم؟ وهل حبسهم هو الحل الحقيقي؟
ما هو غسيل الأموال؟
غسيل الأموال هو عملية تحويل الأموال غير القانونية (الناتجة عن جرائم مثل المخدرات، الفساد، التهريب، الدعارة، أو حتى التلاعب بالعملات الرقمية) إلى أموال “نظيفة” تبدو كأنها ناتجة عن مصادر مشروعة.
الغرض من هذه العمليات هو إخفاء المصدر الحقيقي للمال، بحيث لا يمكن تتبعه أو ربطه بالنشاط الإجرامي.
تتم هذه العملية عادة عبر ثلاث مراحل:
الإيداع: يتم خلالها إدخال الأموال غير القانونية إلى النظام المالي، غالبًا عن طريق تقسيم المبالغ الكبيرة إلى ودائع صغيرة في حسابات بنكية متعددة، أو استثمارها في مشروعات ظاهرها قانوني.
التمويه: هنا يبدأ المتورطون في تحريك الأموال بطرق معقدة لإخفاء أثرها، مثل التحويلات بين حسابات متعددة، أو تحويلها إلى عملات مشفرة أو إلى الخارج.
الدمج: وفي هذه المرحلة، يتم إدخال المال إلى الاقتصاد بشكل قانوني تمامًا، مثل شراء عقارات، سيارات، أو استثمارات رسمية، بحيث يصعب على الجهات الرقابية اكتشاف أصله غير المشروع.
هل يمكن أن يكون مشاهير التيك توك متورطين في غسيل الأموال؟
الإجابة: نعم. من الناحيتين القانونية والواقعية، يمكن أن يكون بعضهم وسيلة مثالية لعمليات غسيل الأموال. كيف؟
أولًا، المنصات مثل “تيك توك” و”يوتيوب” تتيح الربح من عدد المشاهدات أو من الهدايا الافتراضية التي يرسلها المتابعون في البث المباشر. وهنا تكمن الثغرة. يمكن أن يقوم أفراد أو شبكات إجرامية بتحويل أموالهم غير القانونية إلى “هدايا” أو “تبرعات” لهؤلاء المشاهير، فيظهر مصدر المال على أنه أرباح من محتوى ترفيهي.
ثانيًا، قد يقوم المشهور نفسه بتقديم خدمات وهمية أو إعلانات مدفوعة لشركات “قشرة” أو غير حقيقية، وبهذا يكون واجهة لتبييض الأموال.
ثالثًا، قد تتم عمليات “غسيل اجتماعي” — وهي طريقة لتجميل صورة المال أو الشخص — عن طريق الشهرة المفاجئة والانتشار، بحيث يتم خلق انطباع بأن الثراء ناتج عن النجاح الرقمي، بينما في الواقع هو نتاج مصادر مشبوهة.
حبسهم… هل هو الحل؟
من منظور اجتماعي وثقافي، فالحبس ليس هو الحل الكامل. من منظور قانوني، الحبس هو وسيلة لمعاقبة من خالف القانون وردع الآخرين.
بعض هؤلاء المشاهير ليسوا فقط أشخاصًا يسعون للشهرة، بل هم نتاج واقع اجتماعي واقتصادي مختل. عندما تنخفض فرص العمل، وتصبح الموهبة غير مجزية، ويرتفع سقف الطموح مع توافر أدوات الانتشار الرخيص (الموبايل + الإنترنت)، يبحث الناس عن أقصر طريق للثراء، حتى لو كان على حساب القيم.
والأخطر أن بعض المحتوى “الجنسي المُوحى به” أو الابتذال لم يعد مستنكرًا في نظر بعض الفئات، بل أصبح “طريقًا للترند”، وربما “الحلم الجديد” لأبناء الطبقات المهمشة.
هل الابتذال وحده هو ما يهدم القيم الأسرية؟
القيم لا تنهار بسبب مقطع فيديو، بقدر ما تنهار حين يشعر المواطن أن لا قيمة له.
منظومة القيم في أي مجتمع هي نتاج مركب لعدة عناصر:
الفقر: حين لا تجد الأسرة دخلًا يكفي للطعام، كيف يمكنها مراقبة سلوك الأبناء أو توجيههم؟
تقييد الحريات: حين تُغلق أمام الشباب أبواب التعبير المشروع، يلجأون إلى أشكال أخرى، أحيانًا تكون هدامة.
انعدام العدالة الاجتماعية: حين يرى المواطن أن الغني يزداد غنى دون مجهود، وأن الفقير يُحاسب على كل تفصيلة، تنشأ حالة من الغضب والكفر بالقيم.
الارتفاع الجنوني في الأسعار مقابل تدني الأجور: يؤدي هذا إلى تقهقر الطبقة المتوسطة، وزيادة شعور الناس باللاجدوى، مما يدفع البعض لتبني سلوكيات يائسة أو استعراضية لجذب الانتباه والمال.
إذًا، انهيار القيم ليس بسبب فيديوهات تيك توك فقط، بل هو عرض لمرض أعمق. إذا أردنا علاج الظاهرة فعلًا، علينا أن نعالج الجذور، لا فقط النتائج.
ما الحل؟
تشريع وتنفيذ قوانين صارمة ضد غسيل الأموال واستخدام وسائل التواصل كمنصات.
تنمية اقتصادية شاملة تضمن عدالة توزيع الدخل وتوفير فرص حقيقية للعمل والإبداع، خاصة للشباب.
رفع الوعي المجتمعي والإعلامي بخطورة المحتوى المبتذل، وتقديم بدائل مشوقة ومحترمة، مع تمكين صانعي المحتوى الهادف.
دعم الأسرة بدورات توعية وأدوات رقمية لمراقبة سلوك الأبناء، وتوجيههم لاستخدام التكنولوجيا بشكل إيجابي.
إصلاح التعليم والإعلام ليتحول من حشو نظري إلى صناعة وعي نقدي قادر على التمييز بين ما هو ترفيهي وما هو هدام.
حبس بعض مشاهير التيك توك المتهمين بغسيل الأموال أو الإساءة للآداب العامة قد يراه البعض خطوة ضرورية في إطار تطبيق القانون، لكنه لن يكون حلًا كافيًا إذا تجاهلنا السياق الأوسع الذي أنتج هذه الظواهر.
المشكلة ليست فقط في المحتوى، بل في مجتمع غابت عنه العدالة والحرية والكرامة. ولكي نحمي القيم الأسرية فعلًا، علينا أن نعيد بناء الأساس: اقتصاد عادل، إعلام هادف، تعليم واعٍ، وعدالة اجتماعية حقيقية.
بعض هؤلاء المشاهير ضحايا… ضحايا الظروف.