عز الدين الهواري يكتب: من شوارع جوهانسبرغ إلى أزقة غزة: عندما يتجدد الحصار.. يتحقق النصر مجددًا.

عز الدين الهواري يكتب: من شوارع جوهانسبرغ إلى أزقة غزة: عندما يتجدد الحصار.. يتحقق النصر مجددًا.

في تاريخ الشعوب، لحظات فاصلة يتحول فيها الضحايا إلى رمز، والجلادون إلى لعنات متحركة فوق أرصفة التاريخ. وما بين مذابح نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وجرائم الإبادة الجماعية التي تبثها كاميرات الهواتف من غزة المحاصرة، يقف الضمير العالمي أمام مرآة دامغة: إن التاريخ يعيد نفسه، ولكن بأقنعة محدثة، ولغة استعمارية مموهة.

من بيض جنوب أفريقيا إلى صهاينة فلسطين

حين كانت جنوب أفريقيا تحت نير نظام الأبارتهايد، أُجبر السود على العيش في جزر معزولة، حرموا من الأرض، ومن الهوية، ومن الماء والكهرباء، تمامًا كما يُعزل الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، ويُعامل في تل أبيب كـ”مواطن ناقص” إن سُمح له بالبقاء أصلًا.

كانت مذابح “شاربفيل” و”سويتو” وشهادات سجون روبن آيلاند، تسجل فصولًا من وحشية الرجل الأبيض الذي أراد أن يحكم بقوة السلاح والتمييز العنصري. واليوم، ترتكب إسرائيل مجازرها بحق أطفال غزة أمام عيون العالم، مستخدمة لغة مشابهة لتبرير جرائمها: “محاربة الإرهاب”، “حق الدفاع عن النفس”، و”حماية أمن الدولة”.

لكن العالم تغير.

عندما استدار العالم على جنوب أفريقيا

لم تُسقط الرصاصات نظام الفصل العنصري وحده، بل أسقطه أيضًا الوعي العالمي، حين تحرك الطلاب والعمال والفنانون والسود في أمريكا وأوروبا وأمريكا اللاتينية، وطالبوا بمقاطعة البضائع والشركات والبنوك التي تتعامل مع بريتوريا.

فرض العالم عقوبات اقتصادية وسياسية وأخلاقية على نظام الأبارتهايد، حتى اضطر البيض إلى الركوع أمام نيلسون مانديلا، والتفاوض معه وهو الخارج من زنزانة عمرها 27 عامًا، وكأنها أخرجت النصر من قلب الحصار.

غزة تكتب تاريخًا جديدًا

الآن، تتكرر المشاهد. غزة تُقصف يوميًا منذ أكتوبر 2023، بحصيلة شهداء تجاوزت 40 ألفًا معظمهم من النساء والأطفال. تُقطع عنها الكهرباء، الماء، الطعام، والدواء. وتُمنع عنها المساعدات. لكن كما كان السود في جنوب أفريقيا محاصَرين جغرافيًا، كانوا أيضًا متحررين معنويًا، كذلك هم أهل غزة اليوم: أجسادهم محاصَرة، لكن إرادتهم حرة.

وفي مشهد رمزي مذهل، تتصدر جنوب أفريقيا نفسها – الحرة اليوم – قافلة الدول المناصرة لغزة، فتقود الدعوى أمام محكمة العدل الدولية، وتتهم إسرائيل بالإبادة الجماعية. كأنها تقول: “لقد خُضنا الحرب ذاتها، ونعرف العدو جيدًا”.

الشعوب السوداء تنتفض مجددًا

من واشنطن إلى كيب تاون، ومن نيروبي إلى ريو دي جانيرو، بدأت الشعوب التي عرفت العبودية والاستعمار تُعيد صوغ خطابها السياسي حول فلسطين. فالروابط بين السود المضطهدين تاريخيًا، والفلسطينيين اليوم، ليست مجرد شعارات، بل معانٍ تتغلغل في وجدان كل من عرف الجلد بالسوط، أو النفي من الأرض.

نُظّمت مئات المسيرات في جامعات أمريكا اللاتينية وأفريقيا والولايات المتحدة نفسها، رفعت فيها الأعلام الفلسطينية بجوار صور مانديلا، ورفعت لافتات كتب عليها: كل الدعم ل فلسطين وغزة

طريق النصر يمر من الوعي العالمي

ما لم تدركه إسرائيل، كما لم يدركه نظام الأبارتهايد، هو أن العالم – حين يصحو – يصبح أشد قوة من القنبلة النووية. حين يتحرك وعي الشعوب، تنهار دبابات المحتل وتتهاوى نظرياته في “حق التفوق”، و”صراع الحضارات”.

وحين يتحرك هذا الوعي في قلوب السود، الذين عاشوا أسوأ ما عرفته الإنسانية من عنصرية، فإنه يخلق تحالفًا إنسانيًا لا يُقهر: تحالف المظلومين، الذي حوّل مانديلا إلى أيقونة، ويمكنه اليوم أن يجعل من غزة ملحمة انتصار جديدة.

الكيان ينكشف.. والعروش تهتز

ومع استمرار المجازر، تغيرت صورة الكيان الصهيوني في الوعي العالمي: لم يعد “واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط” كما زعم لعقود، بل بات يُرى على حقيقته: كيان يقوده قتلة ومجرمون يقودون الإبادة الجماعية بوعي كامل ومسبق. أما تلك الأجيال الجديدة التي تتصدر الشوارع والجامعات اليوم، فإنها الجيل الذي سيحكم العالم غدًا، ولن تستطيع آلة التضليل الصهيونية أن تخدعه كما خدعت آباءهم.

فقد عاش اللوبي الصهيوني أزهى عصور الخداع، حين جعل من “الهولوكوست” مظلومية أبدية تبرر كل جريمة، لكن بعد حرق غزة حرفيًا أمام شاشات العالم، ضاعت كذبة الهولوكوست الصهيونية، وانكشفت الأكذوبة التي صمت العالم أمامها طويلًا.

لكنّ ما هو أغرب، وما لم يدركه بعد حكام العرب، أن وجودهم ذاته كان أحد إفرازات حماية الكيان الصهيوني، وأنهم إلى زوال كما هو إلى زوال، لأنهم حماة الإبادة والتجويع، ودموعهم لم تعد تقنع شعوبهم، ولن يصدق أحد نحيب الذئاب بعد اليوم.

فاصمدي يا غزة، واصبري، فإن النصر قادم ومؤكد.