شادي العدل يؤلف: الاحتفال بالزفاف!

خلال اليومين الماضيين، شهدت السفارات والقنصليات المصرية في الخارج مشهداً محزناً للاقتراع في انتخابات مجلس الشيوخ، حيث كان الإقبال ضعيفاً جداً لدرجة مقلقة. وغداً، يبدأ المصريون في الداخل نفس الطقس الانتخابي الذي فقد بريقه منذ سنوات.
لكن الأخطر من ضعف الإقبال هو تحول العملية الانتخابية إلى ما يشبه “الكرنفال السياسي”، حيث تعلو أصوات السماعات والموسيقى أمام مراكز الاقتراع، في مشهد يليق باحتفال زفاف أكثر من كونه عملية انتخابية جادة. هذه المظاهر التهريجية التي تفتقد للهيبة والجدية، لم تعد تخفي حقيقة أن ما يحدث هو مجرد “عرس انتخابي” معد سلفاً، وليس معتركاً ديمقراطياً حقيقياً.
فقدان الهيبة هذا ليس عرضاً عابراً، بل هو نتاج تراكمي لسياسة متعمدة في تفريغ العملية الانتخابية من مضمونها، وتحويلها إلى طقس شكلي تتحكم فيه أطراف بعينها. فمنذ 2014، شهدنا تحولاً خطيراً في المفاهيم، من “المعترك الانتخابي” الذي يعبر عن تنافس حقيقي، إلى “العرس الانتخابي” الذي لا يعدو كونه عرضاً هزلياً تسبقه النتائج وتلحقه الاحتفالات المزيفة.
من “المعترك” إلى “العرس”.. تحوّل خطير في المفهوم، في قاموس الديمقراطية الحقيقية، تُسمى الفترة الانتخابية “معتركًا انتخابيًا”، لأنها تشبه ساحة معركة الأفكار، حيث يتنافس المرشحون ببرامجهم، ويختار الناخبون بحرية، وتظل النتيجة غير معروفة حتى لحظة إعلانها. لكن في مصر، منذ 2014، تحولت الانتخابات إلى ما يُسمى “العرس الانتخابي”، وهو مصطلح يعكس بجلاء كيف أصبحت العملية الانتخابية مجرد احتفال مُعد مسبقًا، تُحدد نتيجته قبل أن تبدأ، وتُدار تفاصيله كـ”فولكلور سياسي” لا أكثر.
إن “العرس الانتخابي” مصطلح كارثي، فالفرق بين “المعترك”و”العرس” هو الفرق بين السياسة الحية والطقس الشكلي، المعترك الانتخابي يعني تنافسًا حقيقيًا، خطابات نارية، نقاشًا حول البرامج، وتوترًا مشروعًا حتى آخر لحظة، أما العرس الانتخابي يعني مشهدًا مبرمجًا، نتائج معروفة سلفًا، و”فرحًا” مزيفًا لا يعكس إرادة الناخبين.
هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج تغيير جذري في النظام الانتخابي، خاصة بعد اعتماد القائمة المغلقة المطلقة، التي جعلت اختيار الناخب شكليًا، حيث يتم حسم المقاعد مسبقًا عبر مفاضلات غير معلنة، وكذلك إضعاف المقاعد الفردية التي كانت تُشكل مجالًا محدودًا للتنافس، فأصبحت هي الأخرى محسومة لصالح مرشحي السلطة.
فمع الأسف تُحسم الانتخابات في مصر قبل أن تبدأ، فالعملية الانتخابية في مصر تمر بمراحل مقصية للإرادة الشعبية، فالفرز يتم قبل التصويت عبر تحديد المرشحين “المقبولين” مسبقًا، واستبعاد أي صوت معارض حقيقي، وإذا مرّ سهوا صوتاً حقيقياً اصطدم بالتضييق على الحملات، بالإضافة للإعلام المُوجّه الذي يعطي مساحة مطلقة لمرشحي السلطة، ويتجاهل الآخرين أو يهاجمهم.
في هذا السياق، أصبحت صناديق الاقتراع مجرد ديكور، لأن النتيجة تُحسم في المكاتب المغلقة، وليس في لجان الاقتراع، فلم يعد هناك تنافس حقيقي بسبب الهيمنة الشاملة للدولة على العملية السياسية، من احتكار التمويل،لرضوخ المعارضة الشكلية، وغياب الرقابة الحقيقية لعدم استقلال وفصل السلطات.
وعواقب تحويل الانتخابات إلى “عرس” ليس مشكلة شكلية، بل له تداعيات عميقة، ومنها فقدان الثقة في النظام السياسي، فعندما يعرف الناس أن صوتهم لا يُغير شيئًا، يمتنعون عن المشاركة، أو يصوتون بدافع الاتجار لا الاقتناع، وكذلك قتل الإبداع السياسي، فلماذا يقدم أي شاب نفسه مرشحًا إذا كان يعرف أن اللعبة مُحسومة؟
ولإعادة “المعترك الانتخابي لا خلاص إلا بإصلاحات جذرية، وعلى رأسها إلغاء القائمة المغلقة المطلقة، والعودة إلى النظام الفردي أو القوائم النسبية، حيث يكون للناخب رأي حقيقي، ووقف تدخل الأجهزة الأمنية، فيجب أن تدار الانتخابات بواسطة لجان مدنية، وليس عبر أي توجيهات.
يا سادة الانتخابات ليست احتفالًا.. بل معركة مصيرية، الفرق بين “العرس” و”المعترك” هو الفرق بين الديمقراطية الشكلية والديمقراطية الحقيقية. مصر لن تنتعش سياسيًا إلا إذا عادت الانتخابات ساحة تنافس حقيقية، حيث تُعلن النتائج بعد الفرز، لا قبله، وحيث يكون الصندوق هو الفيصل، لا الأوامر الصادرة من المكاتب المغلقة.
والسؤال الأخير الموجه لكل لمن يشارك في تنظيم وإخراج “العرس”، هل نستحق كشعب أن نعيش في دولة تُحترم فيها أصواتنا، أم سنظل ندور في حلقة “الأعراس الانتخابية” المزيفة إلى الأبد؟ الجواب يعتمد على ما إذا كنا مستعدين للمطالبة بحقوقنا، أم سنرضى بأن نكون مجرد ضيوف في عرس لم نُدعَ إليه أصلاً!.