«أيدي رقيقة في مجالات صعبة»: حكايات نساء دفعتهن الظروف لتبني أدوار الرجال من أجل تأمين العيش الكريم.

كتبت: سمر أبو الدهب
هذا ليس مجرد تحقيق صحفي؛ إنه سرد لقصص نساء دفعتهن قسوة الحياة إلى مهن كانت في الماضي حكرًا على الرجال، وراء كل يد مُتشققة، ووراء كل نظرة صامدة، تكمن قصة كفاح لا تروى بسهولة.
أم سعيد.. من المطبخ إلى ورشة الميكانيكا
في حي شعبي بالقاهرة، تقطن “أم سعيد”، سيدة في أواخر الأربعينيات، لم تكن تتخيل يومًا أنها ستعمل في ورشة لإصلاح السيارات، فتقول في تعليق لها على منشور بإحدى حسابات وسائل التواصل الاجتماعي: “بعد وفاة زوجي، وجدت نفسي وحيدة في مهب الريح مع ثلاثة أبناء، كان الدخل الوحيد هو معاش بسيط لا يكفي لتغطية نفقات المأكل والتعليم”.
وأضافت: “لم يكن أمامي خيار سوى النزول إلى سوق العمل، بدأت كمنظفة في الورشة، لكن سرعان ما تعلمت أسرار المهنة، الأمر لم يكن سهلًا في البداية، كان الرجال يسخرون مني، لكن مع الوقت، أثبت لهم أنني أستطيع، وأحيانًا يرفض بعض الزبائن أن ألمس سياراتهم، لكن الكثيرين يقدرون عملي، الأهم هو أنني أستطيع أن أطعم أبنائي”.
الحاجة سعاد.. صخرة في وجه المحاجر
في إحدى المناطق الصحراوية بالصعيد، حيث تشتد حرارة الشمس، تعمل “الحاجة سعاد” (55 عامًا)، في محجر لاستخراج الأحجار، وتروي قصتها، قائلة: “زوجي مريض بالفشل الكلوي، ويحتاج إلى غسيل كلى أسبوعيًا، والعمل هنا هو السبيل الوحيد لتغطية نفقات علاجه الباهظة”.
تحكي “سعاد” عن الصعوبات التي تواجهها يوميًا: “أحمل أحجارًا ثقيلة تفوق طاقتي وفوق ما تحتمله أي امرأة، وأعمل لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة، لا يوجد تأمين صحي، ولا راحة، إذا مرضت يتوقف الدخل تمامًا”.
والحقيقة أن قصة الحاجة سعاد تكشف عن واقع مرير، سيدات يعملن في ظروف غير آمنة، دون حماية أو دعم، ليواجهن تحديات جسدية وصحية تفوق طاقتهن، لكن الدافع أقوى من كل شيء، إلا وهو البقاء.

«الجانب الاقتصادي والاجتماعي».. أصوات منسية في مهب الريح
قصص أم سعيد والحاجة سعاد وغيرهن ليست فردية؛ بل هي جزء من ظاهرة متزايدة، نساء كثيرات اضطررن للعمل في مهن شاقة بسبب ارتفاع الأسعار، وتكاليف المعيشة، وغياب التأمين والدعم الكافي، وغالبًا ما تتقاضى هؤلاء السيدات أجورًا أقل من نظرائهن الرجال، رغم قيامهن بنفس العمل، فالعنصرية والاستغلال “لا دين لهم”.
كما لا تحصل أغلبهن على تأمين اجتماعي أو صحي، مما يعرضهن لخطر فقدان الدخل في حالة المرض أو الإصابة، ورغم أن البعض يحترم صمودهن، إلا أن نظرة المجتمع لا تزال تشكل تحديًا إضافيًا، وبعضهن يفضلن إخفاء طبيعة عملهن عن أطفالهن لتجنب الإحراج.
وكلنا يعلم أنه لم تكن أي من هؤلاء السيدات لتختار هذه المهن القاسية لو كانت الحياة قد عاملتهن بلطف، فما دفع أياديهن الناعمة إلى حمل الأحجار الثقيلة أو التعامل مع الشحم والحديد، ليس طموحًا أو اختيارًا، بل هو جبر الظروف وقسوة الحاجة، إنها معركة يومية من أجل البقاء، معركة لم يكن لهن فيها أي خيار، سوى أن يصبحن أقوى مما يتخيلن لمواجهة واقع لا يرحم.
وفقًا لتقرير صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في عام 2023، فإنه يوجد في مصر 4.4 مليون أسرة تعولها سيدات، كما أشارت دراسة أخرى إلى أن 70.3% من هؤلاء السيدات يعولن أسرهن بعد وفاة الزوج، وهذه الأرقام تؤكد أن هناك عددًا كبيرًا من النساء يتحملن المسئولية الكاملة عن أسر، مما يبرر اضطرارهن للبحث عن أي مصدر للدخل.
كما تُظهر الإحصائيات أن أقل نسبة من النساء العاملات تتركز في المهن الحرفية وما شابهها، بنسبة تصل إلى 2% فقط من إجمالي العاملات، هذه النسبة قد لا تعكس الحجم الفعلي للظاهرة في القطاع غير الرسمي، لكنها تؤكد أنها ظاهرة استثنائية وغير شائعة بالنسبة للمرأة، مما يجعل قصص هؤلاء السيدات أكثر أهمية.
مسؤولية الدولة والمجتمع لدعم هؤلاء السيدات
ويبقى التساؤل عن الدور الذي تلعبه الدولة لدعم هذه الفئة من النساء، وعن توفير برامج تدريب مهني لهن في مجالات أكثر أمانًا وكرامة تليق بطبيعتهم التي خلقن عليها، وعن إمكانية مساهمة المجتمع في تغيير نظرته لهذه الظاهرة، ليعطي هؤلاء النساء الدعم والاحترام الذي يستحقونه.
جهود الدولة في مواجهة هذه التحديات
تبرز جهود الدولة في مواجهة هذه التحديات من خلال مبادرات، مثل تكافل وكرامة، ومستورة، التي تستهدف بشكل أساسي الأسر التي تعولها سيدات، وتوفر لهن دعمًا ماديًا وقروضًا ميسرة لمساعدتهن على إطلاق مشروعات صغيرة، وبالرغم من أهمية هذه الخطوات، ويرى الخبراء أن الحلول يجب أن تكون أعمق، حيث يؤكدون على ضرورة توفير حماية قانونية للعمالة غير الرسمية، وتطوير برامج تدريب مهني موجهة للنساء، بالإضافة إلى تيسير وصولهن إلى التمويل والأسواق، لضمان انتقالهن إلى بيئة عمل آمنة ومستقرة بعيدًا عن الاستغلال.
إن صمود هؤلاء السيدات ليس مجرد قصة فردية، بل هو صرخة تطالب بالعدالة والدعم والاعتراف بحقهن في العمل بكرامة وأمان.