المستشار خالد خلاف يكتب: التنمر في القانون المصري.. كيف تصبح الكلمات سلاحًا يعاقب عليه القانون

في زحام الحياة، قد تمر بنا كلمات نلقيها بلا تفكير، أو نسمعها دون اكتراث، لكنها في نفوس البعض تترك ندبةً لا تُمحى فكم من إنسان انكسر من ضحكة ساخرة، أو تهشّمت كرامته تحت وقع عبارة مهينة فالتنمر لم يعد مجرد سلوك اجتماعي مستهجن؛ بل تحول إلى أداة إيذاء نفسي ومعنوي بالغ، تتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية، وتصيب ضحاياها في صميم إنسانيتهم.
لقد تسلل التنمر إلى ساحات المدارس، فغادر الطفل فصله وهو يشعر بالنقص. وغزا مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يُلقى السباب والتهكم خلف شاشات باسم “الترند”. واستقر في أماكن العمل، حين يُهان الموظف بصوت خافت تحت غطاء “المزاح”.
بحسب تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية، فإن ما يقرب من واحد من كل ثلاثة طلاب حول العالم تعرّض لشكل من أشكال التنمر المدرسي. أما على الإنترنت، فالتنمر الإلكتروني بات جريمة عابرة للحدود، ضحاياه أطفال ومراهقون ونساء وحتى موظفون، تنتهي في بعض الحالات — للأسف — بالانتحار أو الاضطرابات النفسية الحادة.
في ظل هذا الواقع المؤلم، لم يقف القانون مكتوف الأيدي. فقد قرر أن يُجرّم هذا السلوك الظاهري البسيط، الذي يحمل في طياته آثارًا مدمّرة.
وفي هذا المقال، نستعرض كيف تعامل القانون المصري، وفقًا لأحدث تعديل صدر في ديسمبر 2023، مع جريمة التنمر بشكل صريح ودقيق. سوف نغوص معًا في نصوص المادة 309 مكرر (ب) المعدلة، ونفكك أركان الجريمة، ونحلل العقوبات، ثم نبحث عن مداخل الوقاية قبل أن يصل الضحايا إلى نقطة الانهيار.
اولاً : التنمر في نظر القانون
من لفظ إلى جريمة” لم يكن التنمر مصطلحًا قانونيًا مألوفًا في مصر قبل عام 2020، رغم وجود أفعال مشابهة تُجرم تحت بند السب والقذف أو الإهانة. لكن المشرّع المصري استشعر خطورة الظاهرة واتساع رقعتها، فقرر أن يمنحها توصيفًا قانونيًا دقيقًا، كمصطلح مستقل يعكس الواقع ويضبطه.
وقد جاء أول تجريم مباشر للتنمر في مصر بموجب القانون رقم 189 لسنة 2020، بإضافة المادة (309 مكرر ب) إلى قانون العقوبات. ثم تطوّر النص مؤخرًا بصدور القانون رقم 185 لسنة 2023، الذي عُدّل فيه النص بشكل أوسع وأدق، ونُشر بالجريدة الرسمية بتاريخ 4 ديسمبر 2023 (العدد 48 مكرر “ب”)، وبدأ العمل به في 5 ديسمبر 2023.
وقد جاء التعديل الأخير كالاتي “يعد تنمرًا كل قول أو استعراض قوة أو سيطرة للجاني أو استغلال ضعف للمجني عليه أو لحالة يعتقد الجاني أنها تسئ للمجني عليه كالجنس أو العرق أو الدين أو الأوصاف البدنية أو الحالة الصحية أو العقلية أو المستوى الاجتماعي، بقصد تخويفه أو وضعه موضع السخرية أو الحط من شأنه أو إقصائه من محيطه الاجتماعي.”
وهنا فالجريمة لا تقتصر على الأذى البدني، بل تشمل الأقوال والتلميحات.ومن ثم فالركن المعنوي لها هو نية التخويف أو السخرية أو الإقصاء.
يعترف النص بالتنمر القائم على التمييز (كالنوع، الدين، الإعاقة، الشكل الخارجي، إلخ) ويعتمد على مفهوم “الهيمنة المعنوية”، أي استعراض القوة أو السيطرة النفسية.
العقوبة الأصلية (الفقرة الثانية من المادة): “ومع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد منصوص عليها في أي قانون آخر، يعاقب المتنمر بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على ثلاثين ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين.”
هذه العقوبة تنطبق على الجريمة البسيطة (في حال عدم وجود ظروف مشددة)ومن هنا يمكن أن يقضب بُحبس المتهم، أو يُغرّم، أو يُعاقب بالاثنين معًا.
اما العقوبة المشددة (الفقرة الثالثة): “وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة وغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تزيد على مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، إذا ارتكبت الجريمة في مكان العمل أو في إحدى وسائل النقل أو من شخصين أو أكثر، أو إذا كان الجاني من أصول المجنى عليه أو من المتولين تربيته أو ممن لهم سلطة عليه أو كان مسلما إليه بمقتضى القانون أو بموجب حكم قضائي أو كان خادما لدى الجاني، أما إذا اجتمع ظرفان أو أكثر من الظروف المشددة السابقة يضاعف الحد الأدنى للعقوبة.”
ومن هنا تشمل الظروف المشددة المكان (مكان العمل، وسائل النقل) وعدد الجناة (شخصان فأكثر) والعلاقة الخاصة بين الجاني والمجني عليه (ولي أمر، وصي، معلم، صاحب سلطة…)
علي انه متى اجتمع ظرفان أو أكثر، يُضاعف الحد الأدنى (أي قد تصل العقوبة إلى سنتين حبس على الأقل).
وفي حالة العود (الفقرة الأخيرة) وتضاعف العقوبة في حديها الأدنى والأقصى.”إذا كرر الجاني الفعل، فإن العقوبة تُضاعف بشكل كامل — مما يُظهر توجه المشرع نحو الردع الشديد والمتصاعد مع تكرار الجريمة.
ومن هناف المشرّع المصري تعامل مع التنمر كجريمة مستقلة ومكتملة الأركان.وأدخل عليه تفاصيل دقيقة تراعي السياق الاجتماعي والعلاقات الإنسانية.وضع عقوبات تصاعدية لضمان الردع، خصوصًا في حالات التكرار أو السلطة.
ثانياً صور جريمة التنمر
أين يحدث التنمر وكيف لم تعد جريمة التنمر حكرًا على فئة عمرية أو بيئة اجتماعية معينة؛ بل أصبحت ظاهرة متوغلة تمارس في أماكن متعددة، وبصور متنوعة، تتخذ أحيانًا طابعًا خفيًا، وأحيانًا أخرى شكلًا صارخًا يصعب تجاهله.
ولأن القانون قد صنّف بعض هذه الحالات كـظروف مشددة تستوجب تغليظ العقوبة، فإن الإلمام بأشكال الجريمة ومجالات وقوعها بات ضرورة، سواء للمجتمع أو للقائمين على إنفاذ القانون.
أولًا: التنمر في المدارس والمؤسسات التعليمية الضحية: غالبًا طفل أو مراهق، يعاني من اختلاف ظاهري، أو مستوى اجتماعي معين.والجاني طالب أكبر، مجموعة طلاب، أو أحيانًا أحد العاملين في المؤسسة والمظهر سخرية متكررة، تهميش، عنف لفظي أو إشارات جسدية جارحة والخطر هو انعدام الثقة، ترك المدرسة، اكتئاب، اضطرابات نفسية طويلة الأمد.
ثانيًا: التنمر الإلكتروني (Cyberbullying) المكان: شبكات التواصل الاجتماعي، تطبيقات الرسائل، البريد الإلكتروني والأداة منشورات مسيئة، تعليقات سامة، صور مركبة، فضح خصوصيات، رسائل تهديد وأبرز الضحايا المراهقون، الشخصيات العامة، النساء، أصحاب الإعاقات والقانون المصري يُحاسب هذا الفعل أيضًا تحت مظلة قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 وكذلك مواد القذف والسب العلني (302 – 303 – 306 – 308) من قانون العقوبات ويتجسد ذلك علي سبيل المثال بتعليق علني يسخر من شخص بسبب وزنه أو شكله، ويتسبب في حملة تحقير أو تهديد على حسابه، يُعد تنمرًا إلكترونيًا واضحًا.
ثالثًا: التنمر في أماكن العمل يحدث عبر: استهزاء من أداء الموظف، تهميشه، نزع سلطته، أو إشعاره بعدم الانتماء وقد يتم من خلال مدير يهمش موظفًا او مجموعة من الزملاء يشيعون عبارات مهينة عن زميل والخطورة هنا تكمن فقدان الأمان الوظيفي، إرهاق نفسي مزمن، اضطرابات في الإنتاجية ويُعد هذا النوع ظرفًا مُشددًا للعقوبة حسب المادة 309 مكرر ب.
رابعًا: التنمر في وسائل النقل والأماكن العامة تعليقات أو تصرفات تنتقص من كرامة أشخاص بسبب مظهرهم أو لهجتهم أو إعاقتهم وتحدث أمام الغرباء، وقد تُسجل على الهاتف وتُنشر في محاولة “للفضح”. وتُعد أيضًا من الظروف المشددة للعقوبة حسب القانون.
خامسًا: التنمر العائلي أو داخل محيط السلطة من أخطر الأنواع لأنه يحدث في بيئة مغلقة حين يمارس الأب، أو الأم، أو الأخ الأكبر، أو الجد سلطة نفسية مهينة ضد طفل أو شاب أو عندما يتعرض أحد أفراد الأسرة للسخرية المتكررة من حالته الجسدية أو العقلية وقد حدد القانون أن الجريمة تكون مشددة إذا كان الجاني من أصول المجني عليه أو ممن لهم سلطة عليه أو يتولون رعايته.
ثالثاً العقوبات
متى تتحول السخرية إلى حبس وغرامة؟” كثيرون يعتقدون أن التنمر لا يعدو كونه “كلامًا جارحًا” أو “مزاحًا ثقيلًا” يُعالج بالاعتذار أو التجاهل، لكن الحقيقة القانونية تختلف تمامًا. ففي نظر المشرّع المصري، التنمر هو جريمة ذات أركان محددة، يُعاقب عليها بالحبس والغرامة، بل وتتضاعف العقوبة إذا اقترن الفعل بظروف مشددة أو إذا تكررت الجريمة.
فالعقوبة الأصلية – وفق نص المادة 309 مكرر ب “يعاقب المتنمر بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على ثلاثين ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين.”وهذه هي العقوبة في حال عدم وجود ظروف مشددة، وتُطبّق على الجريمة في صورتها البسيطة.
و العقوبة المشددة – عند توافر ظروف معينة “تكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة، وغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تزيد على مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، إذا ارتكبت الجريمة في مكان العمل او وسائل النقل العامة او إذا ارتكبها شخصان أو أكثر او إذا كان الجاني من أصول المجني عليه أو ممن له ولاية أو سلطة عليه (كالوصي، المعلم، المشرف، القاضي، الأب، إلخ)
وإذا اجتمع ظرفان أو أكثر من هذه الظروف، فإن الحد الأدنى للعقوبة يُضاعف، أي بدلًا من 6 أشهر قد تصبح العقوبة سنة أو أكثر وبدلًا من عشرون ألف جنيه غرامة قد ترتفع إلى أكثر من أربعون الف جنيه ألف .
في حالة العود (تكرار الجريمة) ” تضاعف العقوبة في حديها الأدنى والأقصى أي إذا ارتكب المتهم جريمة تنمر مرة أخرى، فسيواجه عقوبات أقسى بكثير، تصل إلى ضعف العقوبة في الحدين الأدنى والأقصى، وهو ما يؤكد نهج المشرّع الردعي الحازم.
ومن هنا القانون لا يُعاقب على “الضحك” أو “الرأي”، بل على القصد المهين والإقصائي والمكرر الذي يُلحق ضررًا نفسيًا أو اجتماعيًا بالضحية.
رابعاً : ماذا بعد التجريم
رغم أهمية النصوص القانونية وتشديد العقوبات، تبقى الوقاية من التنمر مسؤولية مجتمعية قبل أن تكون مسؤولية جنائية. فالقانون وحده لا يكفي؛ لأن كثيرًا من جرائم التنمر لا يُبلَّغ عنها أصلًا، إما بسبب الخوف، أو الإحراج، أو الجهل بالحقوق ومن هنا يبدأ دور الأسرة فالبناء يبدأ من المنزل وعلى الأسرة أن تُعلّم أبناءها احترام الاختلاف، وقبول الآخر ويجب الإنصات للأطفال عندما يُعبرون عن تعرضهم للسخرية أو التهميش فالتنمر أحيانًا يبدأ من البيت نفسه، حين يُقارَن طفل بآخر، أو يُهان بسبب شكله أو تحصيله.
كما ان دور المدرسة هوالتربية قبل التعليم لا يكفي أن تُكتب القيم على الجدران، بل يجب غرسها في السلوك اليومي ويجب تدريب المعلمين على اكتشاف التنمر مبكرًا، والتدخل التربوي لا العقابي فقط فغياب سياسات واضحة ضد التنمر يجعل المؤسسة التعليمية بيئة خصبة لنمو الظاهرة.
كما ان دور الإعلام ومواقع التواصل على الإعلام أن يتوقف عن تسطيح الظاهرة أو تقديمها في شكل “كوميدي”. ويجب أن تكون هناك حملات توعية دورية تشرح العقوبة القانونية للتنمر و بعض المؤثرين على مواقع التواصل يستخدمون التنمر كوسيلة لزيادة المشاهدات، دون إدراك لخطورة ما يفعلون.
إن التنمر ليس مزحة، وليس حرية رأي، وليس طريقة لتربية الطفل أو تصفية الحسابات. التنمر هو عدوان معنوي يُجرّم بالقانون، ويُهدد السلم الاجتماعي من الداخل. والوقاية منه تبدأ بكلمة “احترام”، وتنتهي بنص قانوني يحمي من لا يستطيع أن يدافع عن نفسه.
وبين أول الكلمة وآخر النص، يقف المجتمع كله: أُسر، مدارس، إعلام، وقانون.