صبحي موسى يكتب: بين “منفيّي” عمار علي حسن و”أبطال” نجيب محفوظ

صبحي موسى يكتب: بين “منفيّي” عمار علي حسن و”أبطال” نجيب محفوظ

 

على خطى نجيب محفوظ يكتب عمار على حسن روايته، أو ملحمته، “المطاريد” الصادرة مؤخرًا عن الدار المصرية اللبنانية، وهي عمل فريد في بابه هذه الأيام، إذ أنه من النادر أن يعكف كاتب على كتابة ملحمة من ثلاثة أجزاء، تتناول التاريخ الاجتماعي المصري في القرى منذ عهد الدولة المملوكية حتى عصرنا الحالي.

يتهادى هذا التاريخ عبر أسرة متخيلة تنتمي إلى أحد المجاذيب في القرن الخامس عشر ميلاديا، يؤسس نجعًا يسمى نجع المجاذيب، حيث ـن رفاقه في الزاوية التي أقام بها كانوا ثلاثة من مجاذيب المتصوفة، ثم تسمى القرية فيما بعد الصابرية اشتقاقا من اسمه الصابر، ثم يدور الصراع بين أحفاده وأحفاد أحد رفاقه الذي حمل اسم جابر، وحين يتغلب الجوابر على الصوابر يصبح اسم القرية نجع الجوابر، هؤلاء الذين يطردون آل صابر من القرية.

تتعدد الأجيال، ويبرز في كل جيل قائد يقود مسيرتهم في الترحال من الشمال إلى الجنوب أو العكس على ضفاف نهر النيل، فيؤسسون قرى ونجوعا جديدة، ويستخرجون ذهبًا من عروق المناجم ويسبكونه ويبيعونه، ويزرعون الخشخاش في أرض بكر ويبيعونه، مكونين في كل مرة ثروة تؤهلهم للعودة وامتلاك قريتهم، لكن كل جيل تنتهي حكايته بنكبة، ويتم فرارهم إلى أرض جديدة، غير أن حلم العودة إلى الأرض /الوطن/ الأصل يظل قائمًا، لا يبارح مكانه، فكل من قادة الأجيال يحلم بالعودة، وإن لم يحلم اتته الإشارات واضحة بضرورة العودة، وفي كل مرة تنتهي المحاولة بنكبة.

يمكننا أن نجد العديد من الوشائج التي تربط بين عمار في ملحمته ونجيب محفوظ في ملحمته الخالدة “الحرافيش”، بدءا من الأجواء الصوفية التي غلفت كلا العملين، مرورا بالأزمنة وتحولاتها على أبناء الناجي، فضلا عن الجد الذي تنتمي إليه العائلة، وصولا إلى البطل الضد أو الشرير المناهض منذ بدء الحكاية حتى نهايتها، وهم الجوابر الذين استضافهم الصابر، ثم طمعوا في مكانه وطردوا أبناء الصابر في ملحمة عمار.

لكن الزمن لدى نجيب غير معروف ولا محدد، بينما لدى عمار توجد إشارات واضحة بتحديده، بدءا من الدولة المملوكية والعثمانلية والدولة العلوية وغيرها، إشارات من قبيل قانون نامة العثمانلي، أو الملتزم الذي يمتلك الأرض، أو الباشا الذي أصبحت كل أراضي بر مصر تابعة له، أو قانون تمليك الأراضي في عصر سعيد، أو ذكر اسم الخديوي إسماعيل. وغيرها من الإشارات التي توضح الزمن الذي تجري فيه الأحداث، وإن كنا من كثرة الأحداث والأجيال وتكرار النكبات وتشابهها، فضلا عن سرعة إيقاع السرد، نجد أنفسنا أمام زمن واحد ممتد، هو زمن التغريبة التي تذكرنا بتغريبة بنى هلال التي قامت عليها ملحمة السيرة الهلالية.

لا يمكن القول أن عمار لم يتأثر بملحمة نجبب محفوظ، فقد ألقى الأخير بظلاله الواضحة على قصص وحكايات الجزء الأول، حتى في مقدمات هذه الفصول، وفي تقطيعها وترقيمها، إلا أن ذلك لا يعني ان عمار وقع أسيرًا لرؤية نجيب، فقد قدم الأخير رؤيته من خلال الحارة، وهو مكان مدني محدود المساحة والأبعاد، وإن جعله نجيب معادلًا لمصر، وربما للدنيا ككل، فقد جرده من كل تحديدات الزمان والمكان، وجعله مسرحًا للحكاية الإنسانية، مطورًا في الحرافيش رؤيته اللاهوتية التي قدمها في ملحمته الشهيرة أيضا “اولاد حارتنا”.

أما عمار فقد خرج إلى أفق المكان الريفي، ويمكن القول أن ملحمته هذه واحدة من الروايات القليلة التي استفادت من نهر النيل كمسرح للأحداث أو خلفية لها، فطيلة الوقت كان النيل والجبل يحضران كعنصرين أساسيبن في التشكيل المكاني للنص، حيث ظل الصوابر الذين يمكن اعتبارهم معادلا للشعب المصري يؤسسون نجوعا وقرى على شاطيء النيل.