منى عبد الراضي تكتب: من الفقر إلى “الثروة المفرطة” .. تأثير مشاهير التيك توك على الوعي الاجتماعي

منى عبد الراضي تكتب: من الفقر إلى “الثروة المفرطة” .. تأثير مشاهير التيك توك على الوعي الاجتماعي

في زمن لم يعد يقاس فيه النجاح بالعلم أو الإبداع أو حتى مجرد الجهد، برز على سطح المشهد الإعلامي والاجتماعي نمط جديد من “النجوم” الذين لم يمروا ببوابة موهبة أو علم أو حتى أدنى درجات الاحترام للذوق العام. إنهم مشاهير “التيك توك” الذين صعدوا، أو بالأدقّ، زج بهم إلى صدارة الاهتمام، لا بسبب ما يملكونه من محتوى، بل بسبب ما يفتقرون إليه من قيم ومبادئ ومحتوى حقيقي.

لقد تحوّلت بعض الحسابات الشخصية على منصات مثل “تيك توك” إلى منصات لـ”السوقية” بأبشع معانيها. ألفاظ مبتذلة، مشاهد مشوّهة، إيحاءات لا تخطئها عين، أداء غارق في التهريج والتدني، ثم في نهاية المطاف، ربح مادي يتجاوز ما قد يجنيه الطبيب أو المهندس أو المعلم خلال سنوات من العمل المضني. كيف وصلنا إلى هذه النقطة؟ وكيف أصبحت قلة قليلة –بلا موهبة تُذكر– تملك القدرة على التأثير في ملايين من العقول، خصوصا من الفئات العمرية الأصغر سنًا؟

انقلاب في منظومة القيم

مصر التي كانت تُقاس ريادتها بالثقافة والفكر والفن الراقي، أصبحت اليوم تُختزل –عبر عدسات العالم الرقمي– في صور مشوهة لمجموعة من الأشخاص يصرخون ويتراقصون ويتبارزون في الفضائح والتلميحات الجنسية، وكأننا شعب بلا تاريخ أو حضارة. والكارثة ليست فقط في وجود هذا المحتوى، بل في انتشاره، والإعجاب الذي يحصده، والتفاعل الذي يغذّيه، وكأن “القاع” قد أصبح معيارًا جديدًا للنجاح.

الآلاف من المصريين باتوا يعرفونهم بالاسم، يترقّبون فيديوهاتهم، يتناقلون أخبار خلافاتهم، ويشاركون في حفلات “الردح الرقمي” التي أصبحت مادة ترفيهية يومية. أما الأخبار التي كانت يومًا تهم المواطن –كالاقتصاد أو التعليم أو الصحة– فلم تعد تحظى بنصف هذا الانتباه.

من التوسل إلى الابتزاز

واحدة من أخطر ملامح هذه الظاهرة، أن بعض من يُسمّون بـ”المؤثرين” باتوا يتربحون من التوسل، بل من “الشحاذة الرقمية” العلنية. فبعد أن استُنزفت لديهم كل أدوات الإثارة، لجأوا إلى اللعب على أوتار العواطف والابتزاز العاطفي: “ساعدوني”، “أنا محتاج”، “اتحولوا لي على البث المباشر”، دون خجل، ودون احترام لعقول المتابعين.

ومع تضخم أرباحهم، بدأ هؤلاء النجوم الجدد يدخلون في معارك علنية، مليئة بالاتهامات المتبادلة: خيانة، فضائح، خروقات أخلاقية، وربما ما هو أكثر. لكن الأخطر من الاتهامات نفسها، أنها تُقال على الملأ، أمام ملايين المتابعين، دون أي التزام بالقانون أو احترام لقواعد المجتمع.

السمعة الوطنية في خطر

المدهش –والمؤلم في آن– أن هذه الظاهرة لم تعد حبيسة الداخل المصري فقط. فمع التوسع العالمي لتطبيقات مثل “تيك توك”، أصبح العالم يشاهد هؤلاء باعتبارهم نموذجا لمصر. نعم، أصبحت بعض التعليقات من جنسيات عربية وأجنبية تسخر من المصريين وتستهزئ بثقافتهم بناءً على صورة نمطية خلقتها هذه الفيديوهات المخزية. ولعلّ أكثر اللحظات إحباطًا، حين تقع أعيننا على هذه التعليقات المليئة بالسخرية والاحتقار، فنشعر بالغضب، لكننا في ذات الوقت ندرك أن الغضب وحده لا يكفي.

فمن المسؤول عن هذه الكارثة الأخلاقية والثقافية؟ هل الدولة مغيّبة عمّا يحدث على مواقع التواصل؟ أم أن هناك تهاونًا في إنفاذ القانون؟ ألا تستحق سمعة الشعب المصري –الذي أنجب طه حسين وسيد درويش وأم كلثوم ونجيب محفوظ– أن تُصان من هذا التلوث الرقمي؟.

الجرائم لا تقتصر على القتل أو السرقة

ما يُرتكب على هذه المنصات من تشويه متعمّد للوعي، وتسطيح لثقافة الجيل الجديد، هو جريمة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. نعم، ليست كل الجرائم مادية. فهناك ما هو أخطر: قتل الوعي، وسرقة القيم، والاعتداء على الذوق العام. وهذه جرائم لا تقل خطورة عن أي تهديد أمني آخر، لأنها تمس جوهر الشخصية المصرية.

الدولة تمتلك الأدوات التشريعية والتقنية للسيطرة على هذه الفوضى. فهل يتم استخدامها؟ أم أن الرهان ما زال قائمًا على “المناعة الذاتية” التي يبدو أنها انهارت تحت سطوة “الترند” و”اللايك” و”المشاهدات”؟

الحل ليس في المنع فقط

لا يمكن بالطبع أن نطالب بمنع تام لهذه المنصات أو فرض رقابة صارمة على كل محتوى، فهذا طرح غير واقعي. لكن من الممكن –بل من الواجب– وضع ضوابط تحترم حرية التعبير دون أن تفرّط في أخلاقيات المجتمع. يجب أن تكون هناك هيئة رقابية رقمية فاعلة، تراقب المحتوى المسيء، وتوقف الحسابات التي تبث الفجور أو تروّج للتحريض أو تنشر الابتذال العلني.

كما يجب دعم المحتوى الإيجابي، وتقديم نماذج شبابية مشرفة تستحق المتابعة والتفاعل. فالمشكلة ليست في “تيك توك” أو “السوشيال ميديا” بحد ذاتها، بل في كيفية استخدامها، وفي من يهيمن على ساحاتها.

استعادة الوعي

إن ما يحدث ليس مجرد “ترفيه فارغ”، بل هو مشروع منظم لتفريغ العقول، وإشغال الناس بتفاهات تُبقيهم بعيدًا عن الوعي، والمشاركة، والتفكير النقدي. ولهذا فإن المواجهة ليست فقط أمنية أو قانونية، بل ثقافية وتربوية وإعلامية أيضًا.

 

نحن بحاجة إلى نهضة أخلاقية وثقافية شاملة. نحتاج إلى تجديد الخطاب الإعلامي، وتطوير المناهج التربوية، وإحياء قيمة “القدوة” في مجتمعنا. فحين يُصبح قدوتنا نجم تيك توك يرقص على أنغام سوقية مقابل آلاف الجنيهات، فاعلم أن الخطر لم يعد على الأبواب، بل في قلب الدار.

المسألة ليست مجرد ظاهرة مزعجة، بل أزمة تهدد الهوية الثقافية والأخلاقية للمجتمع المصري. لا يصح أن يبقى هؤلاء “النجوم المزيفون” واجهة تمثل مصر أمام العالم، بينما يُقصى العلماء والمفكرون والفنانون الحقيقيون إلى هوامش النسيان. وعلى الدولة، وعلى كل مواطن غيور، أن يتحرك الآن، قبل أن نصحو يومًا فلا نجد من ذاكرة الحضارة سوى “هاشتاج” تافه وفيديو مسيء يُختزل فيه وطن بحجم مصر.