محمد سعد عبد اللطيف يكتب: عندما يتحول الصمت إلى الوطن والبحر ملاذ الروح

محمد سعد عبد اللطيف يكتب: عندما يتحول الصمت إلى الوطن والبحر ملاذ الروح

في هذا الشهر، انسحبت من العالم كما ينسحب الليل من أطراف النهار دون ضجيج، جلست على شاطئ البحر المتوسط المصري، هنا حيث البحر يتهامس مع النسمات القادمة من بعيد، وحيث يتقاطع الصمت مع صوت الموج في انسجام نادر.

لم أهرب من مكانٍ بعينه، بل من صخبٍ بات يضيق بي. تركت خلفي القرى التي صارت تضج أكثر من المدن، والمدن التي فقدت هويتها، واخترت العزلة لا لأبكي، بل لأتنفّس.

أتابع طفلي وهو يلهو بالرمل، يضحك دون أن يعرف أن ضحكته تبكيني، بينما أنظر إلى البعيد، لا إلى الأفق فقط، بل إلى هناك، إلى قبرص، إلى بافوس، إلى لارناكا، إلى أثينا، إلى الذاكرة التي لم تهدأ، ومدنٍ سكنها قلبي وما عاد إليها. أتحدث في داخلي إلى البحر كأنّه يفهمني دون كلمات، أستعيد كيف كانت جزيرة قبرص وكرًا للأسرار، مأوى للجواسيس، وخلفها تقف حكاية عشق ممنوع لم يكتمل.

الليل هنا ناعم، الصمت واسع كصدر أم، أتنقل بأفكاري بين بافوس وصدى البرية في أثينا، حيث سكنتُ يومًا، وفقدت شيئًا من شبابي الذي انقضى كلمح البرق. ما زال ذلك الشباب يلوّح لي في الذكرى، ويبتسم من بعيد. كل شيء هنا يتحرك بصمت: الموج، الهواء، حتى الظلال على الرمل.

الصمت لا يعني السكون، بل الحياة في أعمق حالاتها. لا يهمني كم الساعة، بل متى يتلوّن الأفق، متى ترتجف المياه، متى يلتفت البحر إليّ كأنه يهمس لي: “وقال البحر: أخبرني، ماذا تقول لي؟”. فصمتُّ طويلاً، ومضيت أحدّق في المدى، كمن يبحث عن لغة لا تُقال، بل تُحسّ
لم أعد خائفًا من الصمت، بل أصبحت أتشبث به كنجاة، الناس يهربون من الفراغ، وأنا أهرع إليه كمن وجد المأوى الأخير. ففي الصمت رأيت، وفي العزلة سمعت، وفي هدير الموج قرأت حكايات لم تُكتب بعد.

ربما البحر لا يحلّ ألغاز الحياة، لكنه يعلّمنا كيف نعيشها ببساطة وصدق. تعلّمت منه أن لا شيء يستمر، لا الموج ولا الغضب ولا الحب ولا الفقد، كل شيء يتبدد ثم يعود، ثم يتبدد من جديد.

جلوسي هنا ليس انسحابًا بل استدعاء لأعمق ما فيّ. بين الموجة والموجة، أستعيد طفولتي، وخيباتي، ومدني التي ابتلعتها الحروب، وأحلامي التي تبعثرت على أرصفة المنفى. لكن شيئًا ما في ضحكة طفلي يقول لي إن الحياة لا تزال ممكنة، وإن الغد، رغم كل شيء، قد يكون أهدأ من الأمس.

في هذا الصمت، تعلمت أن أكتفي، أن لا أطلب تفسيرًا لكل شيء، أن لا أندم على ماضٍ كان يجب أن أعيشه لأعرف من أنا. هكذا، وأنا في مصر، على شاطئ المتوسط، أكتب لنفسي، أخاطب شواطئ بعيدة، وأزمنة رحلت، وأحلامًا لم تخن، بل تعبت فقط. هكذا، صارت العزلة وطنًا، والبحر بيتًا، والحنين مرآة نرى فيها ما تبقى من أرواحنا.