محمد طايل يكتب: السينما سريعة وسهلة.. بينما الشعر هو سر إعداد طبق أشهى

السِّينما وجْبَةٌ جاهِزة؛ الشِّعْرُ وصْفَةٌ لطبخةٍ ألذّ، لكن أين هُما من إرهاقِ الإنسانِ الوجودي؟
رُبَّما تؤثِّرُ السِينما في عقْلِ الإنسانِ المطحونِ أكثر مِن الشِّعْرِ بتجليَّاتِه العصْرِية الآنَ؛ تطبطبُ على المنْهَكِين؛ فاقِدِي الطَّاقَة؛ مسْلوبِي الشَّغَفِ، ذلك الإنْسان الذِي يحملُ مسئوليَّةً ما هِي أكْبر مِن طموحاتِه وكيانِه ولذلك يضطرُّ مرغمًا إلى طأطأة رأسِ هذه الأحلامِ حتَّى يعبرَ من بابَ مسئوليّاتِه،
ربّما لأن السِينما لا تطالِبُك بشيءٍ؛ هي جاهِزة تمامًا لِكي تطبخَ لك وليمةً حِسِّية كُبْرى مُشبِّعة (صوتٌ- صورةٌ- موسيقَى)، دِرامَا تُناسِبُ إيقاعَ الفْهم الحيويِّ داخلَك، حيثُ تجْلِسُ منتصفَ الأريكة؛ وهي تأتِي إليكَ بجرعاتٍ من المعانِي ملعقةً ملعقةً؛ والسّينما المحبوبَة من الأغلبيّة بكل تاكيد هي السّينما السّلبيّة أي التي تجعلُك لا تشارِكها أيَّ شيءٍ؛ هي تعطيكَ كلَّ شيءٍ وأنت مستَسْلمٌ تمامًا،
رُبَّما -أقولُ رُبَّما- باعتدادِ الشّعْر وصفة لطبخةٍ عظيمةٍ؛ حيثَ أعطاكَ كلّ المكوّناتِ اللازِمة من موسيقَى واضحةٍ وخفيّةٍ، وصور خياليّة جميلة، ومجازَات لذيذة؛ ولغة مُغايِرة، ثمَّ يطلبُ منكَ أن تذهبَ إلى مطبخِ عقلِك، ثمَّ تقوم بعملية الطّبخ كامِلةً؛ أي هو يطلبُ منكَ الاستمتَاع بالطَّبْخِ والمطبوخِ، بالرّحلة والوصول، مما يستدعي طاقةً ذهنيّة إيجابية، طاقة غير قليلة، يطلب منكَ بِها أن تشارِك معَه التّجْرِبة لا المشاهَدة فقطْ؛ لا الاستسلام،
لكن بطل القصَّة الحقيقيّ هو ذلكَ المواطِن الشّقيان الذي يعود إلى بيتِه في السّادِسة مساءً، مفروغَ الطّاقة، مسلوبَ الإيجابية، منهوكَ العصب، مطروحَ الجسد، بعد ساعاتٍ من العَملِ والمواصَلات،
هذا البطلُ مطالبٌ منه أن يبذلَ طاقةً ذهنية كبيرة لِكَيْ يؤوّل معانِي الشّعر، مطالب منه أن يصعد بأقدامِ عقلِه سُلَّمًا شاهقًا، وهو في حالةٍ صفريّةٍ تمامًا، هذا البطل غير مطالبٍ أن يبذل مجهودًا الآنَ أبدًا، هو فقط يريدُ أن ينسَى،
لذلك هو لا يملِك رفاهيةً الاخْتيار ما بينَ الجميل والأجْمل، لأنّه غريزيًّا سيختارُ الأسْهل، لأنّ هذا الوقت ليسَ وقت إرهاق العقلِ بتفكيرات وتعقيداتٍ والوصول إلى معنىٍ جميل عن طريق التخيّل.. هو فقط يريدُ أن ينسَى، يريد أن يريح عقلَه ساعتَين فقط، حيثُ تقدّم له السينمَا هروبًا مثاليًّا من سجنِ الواقِع، لا يتطلّب منه سوى الجلوس والمشاهَدة مُرتاحًا،
في حين يطالبُه الشّعر ببذلِ مجهودٍ إضافيّ بعد يومٍ كامِل من العملِ الذهني والجسدِي، لذلك لن يصمدَ دقيقة واحدة، هذا الرّجل لا يملك حتّى الطاقة لغسلِ وجهه،
لذلك وصلَ إلى عامَة الشّعب الشّعر الذي لا يتم بذل فيه أي مجهودٍ أبدًا لفهمهِ، وصلَ الشّعر الذي يجلسُه أمام القصيدة؛ يضع أمامَه طبقة المعانِي جاهزةً، يلقمه بالملعقة جملةً جملةً، لا يحتاج إلى إرهاق ذهنِه، هو ذلك الشعر الذي يشبُهه حاليًّا، شعر مرهقٌ، مسلوب التّفكير، مسلوب الطّاقة، شعرٌ سهل المضغ، بل هو شعر الزّبادي، والزّبادي جيد جدًا على فكرة،
لكن الشّعر كمشروع قراءَة وتأمّل عميقٍ! هذه رفاهية يا صدِيقي، تتطلّب شرطَين؛ الوقت والجهد، وربّما لأنّ الشّعراء يمتلكون أدوات الفهم مسبقًا، حيث أصبحوا رافعِي أثقالِ المعانِي الفلسفية الثقيلة فهم لا يشعرون بذلك التّعب والمجهود الذهني الذي يقوم به الإنسان المرهق الذي يمارس هذه الرياضة اللغوية،
في هذه المعركة يا صدِيقي ستفوز السّينما؛ ليست لأنّها الأعظم، بل لأنّها أكثر رحمةً بالإنسانِ الضّعيف المنهك،
وذلك يفضِي بنا للسؤّال الجدليّ الأبديّ؛ الشعر لغة ملكيّة أم عامة؟ هل ينبغِي تبسيطه حتّى يناسِب الجميع أم ينبغي أن يظلَّ في برجهِ العاجِي؟.