محمد سعد عبد اللطيف يكتب: “حمادة يتسلى.. والدته تدفع.. ووالده يتألم!”

من يوميات كاتب من الأرياف على شواطئ الفقراء
في جمصة، تلك المدينة الساحلية التي كانت يومًا ما حلمًا صيفيًا للفقراء، تحوّل الشاطئ إلى مسرح كبير تُعرض عليه مسرحية البؤس، ببطولة العائلات المصرية الباحثة عن لحظة فرح مؤقتة. لا رفاهية هنا، بل فتات متعة يُلقى على حافة الرمال. ورغم حرارة الشمس ولهيب الأسعار، تزدحم الشواطئ بما تبقّى من الطبقة المتوسطة، وما تحتها، في محاولة للهرب من واقع أكثر سخونة.
هناك، في منتصف “شارع البحر”، وعلى مقربة من عجلة صدئة تدور كأنها تحاكي حال البلد، وقف شاب عشريني يروّج لإحدى الألعاب، وهو يصرخ في مكبر صوتٍ يُعاني مثله من الانهيار:
“حمادة يلعب… ماما تدفع… بابا يعيّط!”
ضحك البعض، لكن الضحكة كانت مُرّة، كحبة دواء بلا ماء. جملة ساخرة تلخّص واقعًا اقتصاديًا موجعًا، حيث تتحوّل المتعة إلى عبء، واللعب إلى دَين، والفرح إلى معركة تديرها أمٌّ تتقن حساب الباقي من المرتب، وأبٌ يتقن كبت انكساره بابتسامة خشبية.
في مدينة جمصة، تلك المصيف التي ورثها الفقراء من بقايا الطبقة الوسطى، صار الدخول إلى لعبة أطفال مشروعًا استثماريًا يحتاج إلى موافقة الأسرة، ومجلس إدارة القلب والعقل والجيب.
الأم تدفع، والأب يختنق وهو يُقلّب في جيبه بقايا أوراق نقدية قد لا تكفي لعشاء الليلة.
تراه يضحك وهو يهمس في نفسه:
“هو أنا اللي بلعب؟ طب ليه أنا اللي بدفع؟ وليه حمادة بس اللي بيضحك؟”
الأب في هذا المشهد ليس مجرد رجل بسيط، بل هو مواطن مسحوق يُمارس البطولة الصامتة، يبتلع الألم، يبتسم لأبنائه، ويُخفي دموعه خلف نظارات شمسية رخيصة اشتراها من بائع متجول على الكورنيش.
أما “حمادة”، فهو الرمز… الطفل الذي نحاول أن نوفر له لحظة واحدة من طفولة حقيقية، في زمن صارت فيه اللعبة رفاهية، والآيس كريم حلمًا، والمصيف مشروعًا وطنيًا مؤجّلًا.
وفي الليل، حين تهدأ المدينة، ويخفت ضجيج الألعاب، ويسقط الأطفال في نومهم بعد معركة اللهو المُكلّف، يجلس الأب على طرف السرير، يعدّ ما تبقّى من نقود، ويحدّق في السقف. لا يخطط لليوم التالي، بل يتأمّل حجم الكارثة.
جمصة، تلك المدينة الساحرة ذات الذكريات الخفيفة، تحوّلت إلى شاطئ للوهم. حلم الفقراء في عطلة رخيصة أصبح فخًّا من الضحك المختنق. لعبة مرجيحة… ترفع “حمادة” عاليًا، بينما تسحب كرامة الأب من تحت قدميه.
وهكذا يظل “حمادة” يلعب، و”ماما” تدفع، و”بابا”… يعيّط.
يعيّط لأن الضحك صار رفاهية… والبكاء صار عادة…!!