حسام بدراوي يكتب: عدم التوازن في العلاقة بين الموظف والمؤسسة.. تحليل فلسفي لفوضى العلاقات المهنية

في كل مؤسسة، كما في كل مجتمع، تقوم العلاقات السليمة على وضوح الأدوار، واحترام العقود، ووعي كل طرف بحدود ما له وما عليه. غير أن الزمن، حين يطول دون مراجعة أو تصحيح، قد يُنتج وهمًا خطيرًا: أن الاعتياد يمنح الامتلاك، وأن الألفة تُغيّب الواجب.
شاهدت، عن قرب، كيف يمكن أن تنقلب علاقة موظفٍ بالمؤسسة التي يعمل فيها رأسًا على عقب، لا لأن الظروف تغيرت، ولكن لأن وعيه بوظيفته قد اختل. فجأة، لم يعد يرى نفسه موظفًا مؤتمَنًا، بل شريكًا ضمنيًا، لا بعقد، بل بطول المدة. لم يعد يعتبر الأمانة فضيلة، بل ورقة ضغط. وبدلًا من أن يُقدّر الثقة، صار يستغلها، كأن الأمانة دينٌ يُسترد، لا شرفٌ يُحمَل.
هذا النموذج لا يمثل فردًا فقط، بل يكشف ظاهرة أكثر اتساعًا مما نظن: حين يتحول بعض الموظفين من فهمهم لأنفسهم كأُجراء في خدمة غاية، إلى اعتقادٍ باطني بأنهم أصحاب فضل على المؤسسة، لمجرد أنهم لم يسيئوا إليها. ويطالبون بالتقدير، لا على إنجازاتهم، بل على عدم أذيتهم!
إن عدم الإضرار بالآخرين ليس منحة، بل واجب. والسكوت عن الأسرار التي اطّلع عليها الموظف بحكم موقعه، ليست مكرمة منه، بل أصل أخلاقي لا يُنتظر عليه شكر. ومجرد بقاء الإنسان في مكان ما لسنوات طويلة لا يمنحه حقًا في الملكية أو القيادة، إلا إن تحوّلت العلاقة بعقد جديد واضح.
في بعض الثقافات التنظيمية المهزوزة، يُكافأ الموظف لأنه “مخلص”، لا لأنه منتج. ولأنه “لا يشتكي”، لا لأنه يبدع. وهذه الأرضية تُنتج، مع الوقت، حالة من الاستحقاق المتخيل، حيث يرى البعض أن المؤسسة مدينة لهم لمجرد بقائهم، لا لعطائهم.
وللأسف، حين يتغافل أصحاب القرار عن بناء ثقافة مؤسسية قائمة على التوصيف الوظيفي الدقيق، والمساءلة الدورية، وتجديد العقود النفسية قبل العملية، تنشأ هذه الأوهام، وينقلب التدرج المهني إلى صراع خفي، يستند إلى العاطفة والابتزاز الرمزي، بدلًا من الالتزام والوضوح.
إن المؤسسات – خاصة تلك التي تبدأ برؤية إنسانية عائلية أو تعليمية – مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن ترسم حدود العلاقة بين الإنسان والعمل: أن تفصل بين الشخصي والمهني، بين الثقة والرقابة، بين التقدير والتمكين، بين الراتب والملكية. فالوظيفة ليست علاقة أبوية، ولا مسارًا عاطفيًا، بل عقدٌ متجدد يتطلب التزامًا مستمرًا من الطرفين.
وللشباب المقبلين على مسارات العمل أقول: لا تنسوا أن الأمانة ليست تفضّلًا، بل أساس. وأن الوفاء للمؤسسة لا يعني امتلاكها، بل خدمة رسالتها. وأن القيم العليا للعمل – من أمانة وصدق واحترام – لا تُساوَم، ولا يُهدَّد بها، بل تُعاش بضمير.
فالمجتمعات التي تختل فيها الموازين بين الفرد والمؤسسة، تُبتلى بتشوهات عميقة، تبدأ من علاقات العمل، وتمتد إلى صورة الدولة والمجتمع. لأن من لا يعرف حدوده في العمل، قد لا يعرفها في الوطن.