إبراهيم خالد يكتب لـ«الحرية»: العدالة المعلقة.. عندما يتجدد الإقطاع بأسلوب معاصر

إبراهيم خالد يكتب لـ«الحرية»: العدالة المعلقة.. عندما يتجدد الإقطاع بأسلوب معاصر

أحيانًا أشعر أننا نعيش في شريطٍ مُعادٍ من التاريخ، نسخة محدثة من زمنٍ حسبنا أنه انتهى. حين أقرأ عن تضخم الثروات، وامتلاك حفنة من الناس القرار والموارد، ينتابني شعور عميق بأننا عدنا، أو بالأحرى، لم نغادر أصلًا “زمن الباشوات”.

أنا لا أتحدث عن الطرابيش والعباءات الفخمة، بل عن المعنى: حين يكون المال سيد الموقف، والفقراء مجرد أرقام في جداول المساعدات، والسلطة حكرًا على من يملك النفوذ، لا من يملك الكفاءة.

تذكرت مؤخرًا ما كان عليه الحال في أواخر عهد الملك فاروق، حين كانت مصر تُدار فعليًا من نادي الضباط الإنجليز وسرايات الباشوات. لم يكن للفلاح البسيط حق يُذكر، وكان كبار الملاك يتحكمون في آلاف الأفدنة، بينما لا يملك العامل سوى يديه. كان التعليم امتيازًا، والعلاج حلمًا، والوظيفة حكرًا على أبناء الطبقة الراقية.

ثم جاء جمال عبد الناصر، ومعه جاءت لحظة كرامة حقيقية للفقراء. لا أنكر أن سياساته لم تكن كلها ناجحة، ولا أن الأخطاء لم تقع، لكنها كانت المرة الأولى التي يُقال فيها بصوت واضح: “هذه الأرض لكم، أنتم أصحابها”.

قوانين الإصلاح الزراعي، مجانية التعليم، بناء المصانع، إرسال أبناء العمال والفلاحين في بعثات تعليمية… كانت تلك لحظات حلم جميل بعد ليل طويل.

أتذكر دومًا كيف كان والدي، وهو ابن مدينة أرمنت، البعيدة عن العاصمة القاهرة بحوالي 700 كيلومتر، يتحدث عن أول مرة ركب فيها قطارًا إلى القاهرة ليحضر اجتماع الاتحاد الاشتراكي.

كان يقول:

“عبد الناصر ماكنش بيجتمع بينا كموظفين في الإصلاح الزراعي ومؤسسين للاتحاد الاشتراكي، كان بيجتمع بينا علشان يعرفنا إن لينا مكان في البلد دي.”

هذه العبارة لا تزال ترنّ في أذني حتى اليوم.

اليوم، نرى من يشبهون باشوات الماضي، لكن بأزياء عصرية: رجال أعمال يحتكرون السلع، إعلام موجَّه، مشاريع كبرى لا تصل ثمارها إلا إلى القمة، بينما القاعدة تبحث عن الفتات. ومع كل هذا، تُرفع شعارات “النهضة” و**”الرخاء”**، وكأن الفقراء لا يرون، ولا يسمعون، ولا يعانون.

لكن، مثلما حدث مع الملك فاروق حين فاض الكيل وخرج الضباط الأحرار، لا أظن أن الشعوب ستظل صامتة إلى الأبد. هناك هبّة قادمة، بطيئة لكنها عميقة. أراها في عيون الشباب الذين يرفضون أن يُحكموا بعقلية الإقطاع، حتى لو جاءت في غلاف “تطوير”.

أراها في من يطالبون بالحق في السكن الآدمي، في المستشفيات النظيفة، في مدارس تحترم المعلم والطالب.

الهبّة القادمة لن تكون ثورة بالمعنى التقليدي، بل وعيًا جديدًا. وعيٌ بأن العدالة ليست رفاهية، وأن كرامة الإنسان ليست منحة. لقد تعب الناس من انتظار “المكرمات”، فهم يريدون حقوقًا، لا صدقات.

ولمن يظنون أن الشعب نسي زمن عبد الناصر، أو غفر لزمن فاروق، أقول: الشعوب ذاكرتها طويلة، وهي تُمهل ولا تُهمل. وربما يكون التاريخ أبطأ في دورته اليوم، لكن عقارب الإنصاف تدور مهما تعثرت.

لا نريد العودة لعبادة الأشخاص، ولا لسلطة الفرد، لكننا ببساطة نريد العودة لفكرة أن الدولة للجميع، لا للأقوى فقط.

إن كان هناك شيء يستحق أن نُعيده من زمن عبد الناصر، فهو الإيمان بالشعب.

أما من زمن الباشوات، فلندفنه كما دفنه الناس، حين قرروا أن يكون لهم وطن، لا عزبة.