سحر أحمد تكتب: البعث… عندما تئن الجراح وتتلاشى الرؤى

سحر أحمد تكتب: البعث… عندما تئن الجراح وتتلاشى الرؤى

البَعث

‏‎مِن مَوطِنِ الشِعرِ في عَينَيكِ أنبَعِث

‏‎أَموت أَحيَا مِرَارًا لَست أَكتَرِث

‏‎أَدنو ، وأَنأَى ، كدأبِ الرَاحِلِينَ على

‏‎دَربٍ مِنَ الشَوكِ لا سَاروا ولا مَكَثوا

 

‏‎ظَمآنَ أمضِي -بِشَطرِ الروحِ- منتَعِلًا

‏‎حَفَاءَ جرحِي ، وَلَمَا تبعَثِ الجثَث

 

‏‎خَلفِي السؤال مَتَاهَاتٍ أقَسِمهَا

‏‎ثلثَينِ أَحبو وَيعدو الخَوف بِي ثلث

 

 

‏‎بَحَثت عَنِى وكَم رَدَ الطَرِيق صَدَى

‏‎خَطوِي سَرَابًاً على آثَارِ مَن بَحَثوا

 

‏‎وأَيقَظَ العَتمَ في روحِي وفي بَدَنِي

‏‎كيلا أسَائِلَهم فِي النورِ كَم لَبِثوا

 

‏‎تَعمَى الجِهَات وتغرِيكَ الحَيَاة إِلى

‏‎أَن يَنسِلَ النَاسَ نَحوَ الملتَقَى جَدَث

 

‏‎كانَ اللقَاء يظِل الطودَ، يَغمره

‏‎لهَاث رِيٍ ، وَعَطشَى السفحِ ما لهَثوا

 

‏‎يورِث النَبضَ لِلأَغيَارِ يؤثِرهم

‏‎بِهِ وَذو رَحِمٍ يقصَى ولا يَرِث

 

‏‎يَنسَاب ضَوءٌ مِنَ المِشكَاةِ يَملَؤهَا

‏‎بِفِتنَةِ الزَيتِ مِمَا يَعصِر العَبَث

 

‏‎أتَرجِم الغَيمَ في صَمتٍ تشكِله

‏‎سود السَحَائِبِ ، والظلمَاء تحتَرَث

 

‏‎لِتَخنِقَ الجَبَلَ المَكلومَ صَرخَته

‏‎يَصِيح بِالتِيهِ إِنَ القَومَ قَد نَكَثوا

 

‏‎يَصِيح يا لَيتَ أَنَ اليمَ ملتَئِمٌ

‏‎يَصِيح يا لَيتَ أَنَ الرسلَ مَا بعِثوا

في القصيدة التي جاءت بعنوان “البعث”، للشاعر الأردني علي السيد يوسف توفيق، عضو رابطة الكُتّاب الأردنيين، لا نقرأ شعرًا بقدر ما نستشعر حالة من التجلّي النفسي والوجودي في آنٍ معًا.

القصيدة تنتمي إلى تلك النصوص التي لا تُكتَب من منبرٍ لغويّ فحسب، بل تُخلَق من شقوق الروح، وتتمخّض عن وعيٍ جارحٍ بما لم يُقل، بما انكسر وتبعثر ثم ظل يصرخ في الصمت.حيث ينحت القصيدة من وجعه الشخصي دون أن يفقد بعدها الجمعي، ويكتب بلغة مشبعة بالأسى المتوهج، لا تعرف الابتذال، وتلامس الأسئلة الكبرى.

منذ المطلع، يُملي علينا الشاعر طقسًا شعريًا مشبعًا بالخروج والدخول، بالفناء والتخلّق:

“من موطن الشعر في عينيك أنبعث / أموت أحيَا مرارًا لست أَكترث”

مفتتحٌ ينتمي إلى ما يمكن وصفه بـ”الافتتاحات الكاشفة”، حيث العينان -وهما رمز الحياة والرؤية والدهشة- تتحولان إلى محراب يُبعث منه الشاعر. فالبعث هنا ليس قيامًا من قبرٍ ترابي، بل من قبرٍ رمزيّ في القلب والذاكرة والخذلان.

من عيني حبيبته، من مكانٍ غائر في العاطفة، حيث الشعر ليس مهنة ولا غاية، بل مصير. بعثٌ يشبه التجدّد لا بمعناه البيولوجي، بل بمعناه الكربلائيّ، إذ لا قيمة للحياة إن لم تمر عبر الموت، وإن لم تُغسل بالدمع والخذلان والأسئلة.

وما يلبث النص أن يتخلّى عن عاطفيته المباشرة ليدخل إلى متاهة أوسع، حيث الارتحال الموجع:

“أدنو، وأنأى، كدأب الراحلين على / دربٍ من الشوك لا ساروا ولا مكثوا”

المفارقة هنا ذكية وعميقة: فنحن أمام “راحلين” لا يسيرون ولا يستقرون، كأنهم عالقون في لحظة اللازمن، متأرجحون بين خطوتين، بين نداء البداية ووهم النهاية. هذه الحركة المعلقة تُمثّل تمثّلًا شعريًا لحالة وجودية يمرّ بها كلُّ من اصطدمت روحه بإرث من الخذلان أو بفقد الإيمان.

ثم يرتقي النص إلى أفقٍ أكثر فلسفيةً وجمالية، حين يصف سيره “بشطر الروح” منتعلًا “حفاء جرحه”، وكأن الجرح صار ما ينتعله، صار طريقه نفسه.

“ظمآنَ أمضِي -بِشَطرِ الروحِ- منتَعِلًا / حَفَاءَ جرحِي ، وَلَمَا تبعَثِ الجثَث”

هنا يتجلى عبقري الأسلوب الذي يُمكّن اللغة من أن تتقاطع مع اللاجدوى والذهول في آن، حيث الظّمأ ليس بدنيًا بل روحيًا، والبعث ليس رجاء بل سؤال مشكوك فيه. فما جدوى بعث الجثث إذا كانت الروح قد أُبيدت منذ زمن؟

في منتصف القصيدة، يظهر سؤال المصير وعبثية التكرار

النص هنا يُراكم الرموز دون أن يُثقِلها. ثنائية “النور والعتمة”، و”البحث والتيه”، و”الرسل والخيانة” لا تأتي بوصفها أدوات بلاغية بل بوصفها مكونات شعورية لتجربة رجلٍ فقد يقينه، لا بالدين أو بالعاطفة فقط، بل بالجدوى كلها.

“بحثت عني، وكم رد الطريق صدى / خطوي سرابًا على آثار من بحثوا”

إنه ذاتٌ تُنادي ذاتها فلا تُجيب، وتُحاول أن تنتمي لرحلةٍ ما، لكن خطوات السابقين لم تُنبت إلا وهمًا. أي انتماء إذًا يمكن أن يتولد من سراب؟ أيّ “أنا” تلك التي تُبعث من رماد غيرها دون أن تعرف إذا ما كانت حقيقية؟

تشتدّ نبرة القصيدة في مقاطعها الأخيرة

لتنتهي بنبرة احتجاج كبرى، لا على الحياة وحدها، بل على البعث ذاته، على تلك الوعود التي لم تُنجِ، والرسل الذين ربما جاءوا، لكنهم تُرِكوا أو نُكِث بهم:

“لتخنقَ الجبلَ المكلومَ صرخته / يصيح بالتِّيه إن القوم قد نكثوا”

فهنا لا يُلقي الشاعر صرخته من فمه، بل يجعل الجبل -بوصفه رمزًا للصبر والتحمُّل والعلوّ- هو من يصرخ. بل ويصرخ في “التيه”، في اللحظة الأكثر عزلةً وارتباكًا، حيث لا يقين ولا مرفأ.

ويصل النص إلى قمته في البيت الصادم:

“يصيح يا ليت أن اليمّ ملتئمٌ / يصيح يا ليت أن الرسل ما بعثوا”

بيتان يُعيدان تأطير القصيدة كلّها. فالدعاء بأن “اليمّ ملتئم” هو حلم بوحدةٍ لم تعد ممكنة، أما النداء بأن “الرسل ما بعثوا”، فهو ليس كفرًا بالرُّسل بل بالوعد الذي لم يُحقق، بالنبوة التي لم تُشفِ، برسائل سقطت في الأيادي الخطأ.

إن علي السيد هنا لا يكتب قصيدة، بل يرسم خريطة وجودية للتمزّق. قصيدته تذكرنا بصدى المتنبي في توتره، وبظلّ السياب في غربته، وبجرح درويش في نفيه. لكنها تبقى قصيدة علي السيد، بروحه وحده، بلغته التي لا تنتمي إلى غيره، وصورِه التي تمشي على حدّ السكين.

بيانًا شعريًا للإنسان المُنهك الذي ما عاد يثق في النور، ولا في العتمة، بل في قدرته الوحيدة على الصراخ. نصّ يُقرأ كأنه صلاة سوداء على أطلال اليقين.

إنها قصيدة بعثٍ مقلوب، لا يعود فيه الميت حيًا، بل تُبعث فيه الجراح والظنون والشبهات والخذلان. “البعث” ليست هنا حالة انتصار، بل استعادة لأسئلة لم يجب عنها الزمن، ومساءلة فاجعة للعالم، الذي كلما وعد بالضوء، أخرج لنا مزيدًا من الظلام.