عز الدين الهواري يسلط الضوء على: واقع مزعج نعيشه وشعب أصبح متواطئًا في الفساد

عندما تكون الكتابة سراج نور للناس، أو للحاكم، أو مجرد تفريغ لشحنات الغضب المكبوت، فإنها تصبح سلاحًا من نوع آخر. سلاح في وجه الاستبداد، في وجه الفساد، في وجه حياة باتت لا تطاق. حين تأتي الكلمات في أصعب الأوقات، فليست رفاهية، بل واجب، نداء، وصوتٌ في وادٍ ربما لا يرد، لكنه لا يسكت.
نحن اليوم في لحظة كان من المفترض أن تُسخر فيها الأقلام لإضاءة الطريق نحو الخلاص، الخلاص من الظلم المتجذر، ومن الفساد المتفشي الذي لم يعد يُختبأ له، بل يعيش بيننا كواحد منا. الفساد لم يعد مجرد رشوة تحت الطاولة، بل صار هو الطاولة ذاتها، هو الكرسي والمكتب، هو لغة التعامل اليومية بين عامة الناس وخاصتهم.
الفساد صار هو حياة “التوشيش” والغش التي نحياها. صار في البيع والشراء، في المعاملات اليومية، في كل ركن من أركان حياتنا، حتى في الضمائر التي خفت ضوؤها. صار سباك يطلب سبعة آلاف جنيه لتركيب بضعة أمتار من المواسير، لا تأخذ من وقته أكثر من يوم، وكأننا ندفع له ثمن الذهب، لا النحاس. وصنايعى السيراميك يطلب خمسة آلاف لتركيب بعض الأمتار في ثلاثة أيام، وكهربائي يأخذ ستة آلاف لنفس المدة، فيصبح متوسط يومية أي “صنايعي” – دون ضرائب – حوالي ألفي جنيه! هل هذا عدل؟ هل هذه رحمة؟
الجزار يبيع كيلو اللحم من 450 إلى 650 جنيها، وتوصيلة المطار لمسافة 100 كم بـ1500 جنيه. تذهب إلى السوق فلا تستطيع شراء كيلو من المانجو أو التين الشوكي، الذي كان يُباع بعشرة جنيهات. الشوارع مكسّرة، القطارات لا تصلح حتى لنقل المواشي، ثم يتحدثون عن تطوير الساحل الشمالي، عن قطارات ومحطات وكهرباء هناك، وكأن الغلابة لا يستحقون شيئًا، وكأن مئة مليون فقير لا يساوون شيئًا أمام “الساحل الشرير”.
حقوق هؤلاء المئة مليون أولى، وأحق، وأقدس من حقوق أصحاب الساحل الشرير، ناهبي ثروات هذا الشعب، أغنياء الأزمات والحروب، وأصحاب المليارات التي نُزعت من دماء الغلابة، من جيوب الفقراء، من أنين المرضى، من صراخ الأمهات، من أحلام الأطفال.
هؤلاء ليسوا تجارًا فقط، بل تجار كل شيء: تجار أسعار، تجار دواء، تجار تعليم، تجار طعام… بل هم تجار لحوم الشعب المصري ذاته. تذكرة واحدة لحفلة على شاطئ الساحل الشرير تكفي لإعاشة أسرة فقيرة شهورًا، وثمن وجبة واحدة في مطعم من مطاعمهم قد يُنفق على معيشة أسرة سنة كاملة في زمن الفساد والفقر. نعم، نحن في زمن الفحش في الأرباح، في زمن اختفاء ميزان العدل، في زمن تنهار فيه القيم وتتفكك الأخلاق، ويضيع فيه الفارق بين الحلال والحرام.
تكتب كل يوم، وتنصح، وتصرخ، لكنك كلما نزلت إلى الشارع وجدت الناس في ازدياد شر وفساد وفُحش. نعم، لقد خرجت العملية عن حدود النصح وعن دائرة السيطرة. وما يزيد العجب عجبًا أن أغلب هذا الشعب مسلم. مسلم يعرف، أو من المفترض أن يعرف، أن الغش حرام، أن الظلم ظلمات، أن أكل أموال الناس بالباطل من الكبائر.
ولا أريد حتى أن أفتح الحديث عن “التجارة رقم ثلاثة” بعد تجارة السلاح والمخدرات… تجارة الدواء! فوار الحموضة الذي كان بجنيه وربع صار عشرين جنيهًا. دواء كان بخمسة أصبح بخمسين. السمك الذي كان في 2018 بثمانية جنيهات أصبح 120. كيلو اللحمة الذي كان بـ130 جنيهًا في 2022 صار 500 جنيه. تذكرة القطار من القاهرة إلى الإسكندرية كانت بـ45 جنيهًا فصارت 350. هذا جنون. هذا نزيف. هذا ليس من الدولة فقط، بل من الكل. من الشعب الذي قرر أن ينهش لحم بعضه، يرفع السعر على أخيه، يستغل أزمته، يغش ويكذب وينافق.
لكننا لن نفهم ما يحدث بحق إلا إذا قرأنا ما جاء في كتاب الله العزيز:
“وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعْضًۭا بِمَا كَانُوا۟ يَكْسِبُونَ”
إنه نظام إلهي عادل، أن يسلم الله الظالمين إلى بعضهم بعضًا، لأنهم كسبوا الفساد وساروا فيه واستحبوه. فصارت حياتنا كما نراها، نارًا لا تُطاق، ووجعًا لا يُحتمل، وواقعًا يشهد علينا قبل أن نشهد عليه.