معصوم مرزوق يكتب لـ«الحرية»: انتهت الصلاحية !!

هذا المقال كتبته منذ سنوات ، وأرسلته إلي أحد رؤساء التحرير ، بناء علي طلبه ، ولكنه رفض أن ينشره ، ولم يذكر لي سبباً مقنعاً .. فهل يستطيع أحد أن يفهم اللغز ؟؟ .. وفيما يلي نص المقال طبق الأصل :
لم أفهم كيف جادلني الصيدلاني الشاب عندما ذكرت له أن الدواء الذي يقدمه لي قد انتهت صلاحيته ” Expired ” ، فقد قال لي بضيق أن المادة الحيوية تظل صالحة لمدة عام بعد انتهاء الصلاحية ، سألته عن حكمة وضع التاريخ إذن ، ولماذا لم تضع الشركة التاريخ الحقيقي ، فهز كتفيه وزفر وهو يجذب علبة الدواء من يدي قائلاً : ” ناس حمير يا سيدي !! ” .. ولا أظن أنه سيكون من المناسب أن أروي ما دار بعد ذلك ، فهو كلام لا يصح لمن هم أقل من 18 عاماً …
حكيت القصة لصديقي الفيلسوف ، فنظر لي بنظرته السقراطية ، وتنحنح في تؤدة ، واتخذ هيئة مجلسه الفلسفي ، وقال لي : ” لم يخطئ الصيدلاني ، الصلاحية نسبية بالفعل ” ، وعندما ناقشته كي اتخلص من جهلي ، تبسم الرجل بحكمته المعهودة ، ثم ربت علي كتفي كأنني حالة مستعصية ، ثم بدأ يشرح لي :
أنت مثلاً تعيش رغم انتهاء صلاحيتك ، وإذا نظرت للناس من حولك ستكتشف أنهم بلا استثناء بلا صلاحية ، ومع ذلك يعيشون ويأكلون ويشربون ويتناسلون ، وإذا سألت عن الصلاحية فهي بالتعريف القيمة المضافة ، أي الفائدة المحققة من أي كيان بالإضافة لمجرد الوجود ، فإذا انعدمت هذه الفائدة أو القيمة المضافة ، فأن ذلك الكيان يعتبر منتهي الصلاحية ، فكيف تريد أن تطبق علي الدواء ، ما ترفض أن تطبقه علي نفسك ؟؟ …
ورغم سخونة مخي الذي كان يدور مع الكلام متأرجحاً ، جادلته بأن الدواء يمكن إلقاؤه في سلة المهلات إذا انتهت صلاحيته ، ولكن لا يصح ذلك مع الإنسان .. قلت له أن قيمة الإنسان تتمثل أيضاً في وجوده حتي ولو انتهت صلاحية مادته الحيوية ، إلا أن الصديق الفيلسوف ، وقد اعتاد مني علي هذه المناوشات ، ضحك متباسطاً ، ثم قال :
أنا لا أعني التركيب الحيواني للوجود ، وجودك ووجودي ووجود الآخرين ، وإنما أعني صلاحية فعالية هذا الوجود ، لو دققت ستجد أن أختام تواريخ الصلاحية منتهية منذ سنوات ، أي أنه لو صح التخلص من الدواء منتهي الصلاحية ، فأنه ينبغي أيضاً التخلص من هؤلاء البشر الذين انتهت صلاحيتهم ، ولكن ذلك لا يحدث لسبب بسيط هو أحداً لا يمتلك الشجاعة كي يعترف بانتهاء صلاحيته ، ثم من هو المسئول عن وضع أختام انتهاء الصلاحية ؟ …
لم أعرف بماذا أجيبه ، ولكنني قلت له أن في حالة الدواء فأن الشركات التي تنتجه هي التي تحدد تاريخ الصلاحية ، وعليها تقع المسئولية القانونية إذا لم تفعل ذلك ، ثم أن الجهات المسئولة عن صحة الناس تراقب ذلك بدقة ، وقبل ذلك وبعده فأنه من المحقق علمياً أن الدواء منتهي الصلاحية يسبب الضرر فعلاً … هز الصديق الفيلسوف رأسه في حزن واضح وهو يقول لي :
تريد أن نعلق علي رقاب الناس لوحة تحدد انتهاء تاريخ صلاحيتهم ؟ .. وبفرض أن ذلك جائز التحقيق ، هل سيعترف إنسان بأنه Expired ؟ .. أن كل شيئ حولك Expired ، مقالات الصحف ، الأغاني ، العواطف ، التاريخ ، النبل والكرامة ، حتي الأحلام ..Expired .. ولكن لا يوجد ضرر ، والأمور علي ما يرام .. مشكلتي معك أنك تتفادي الحقائق ، وهذا دليل آخر علي أنك Expired …
وقبل أن أفتح فمي مرة أخري ، أشار لي بيده منصرفاً وهو يقول : وقتك .. Expired ..
بعد أن غادرته شعرت بهم ثقيل يجثم علي صدري ، لقد شعرت بأن حديثه يحمل بعض المعاني التي أفكر فيها من حين إلي آخر ، وبدأت أنظر حولي وأدقق في كل شيئ ، فوجدت أن الشارع الذي أمشي فيه مليئ بالحفر والمطبات ، أي أن صلاحيته قد انتهت منذ زمن ، وجدت القمامة في كل الأركان ، بمعني أن النظافة قد انتهت صلاحيتها أيضاً ، اكتشفت أن عيون الناس زائغة ووجوههم صفراء باهتة ، أي أن الصحة منتهية الصلاحية ، نظرت إلي ساعتي فوجدتها متعطلة ، وفي الحقيقة هي كذلك منذ فترة كبيرة ، أي أن الزمن منتهي الصلاحية .. وهكذا دواليك تبين لي بشكل مزعج أن كل شيئ حولي منتهي الصلاحية …
جلست في منزلي أتابع نشرة الأخبار ، وارتعبت حين وجدتها نفس أخبار أمس وأمس الأول ، بل والأعوام السابقة ، نفس الحديث عن عملية السلام ، والرخاء القادم .. نفس الوجوه ، نفس الصياغات .. ودخلت زوجتي لتسألني عن إختياراتي لطعام الغذاء ، وأجبتها نفس الإجابة التي اعتدت عليها منذ سنوات : ” أي حاجة ” ، فانصرفت ، ولكن رعبي تزايد ، فهذا السؤال قد فقد صلاحيته ، ومع ذلك يتردد ، ونفس الأمر في إجابتي ، رغم أنني لم آكل ابداً ذلك الغذاء المسمي بـ ” أي حاجة ” !! ..
اتجهت كالعادة إلي مكتبي ، هممت بكتابة مقال جديد ، وكدت أصعق عندما وجدت أن السطور هي نفس السطور ، والمعاني تتكرر منذ سنوات بنفس الألفاظ تقريباً .. لقد فقدت المقالات صلاحيتها أيضاً ، فهي كما قال صديقي الفيلسوف لا تمثل ” قيمة مضافة ” ، وأظن أنني مثل غيري لا بد أن نتحمل المسؤولية القانونية عن حقن عقول الناس بأفكار انتهت صلاحيتها ، ولكن من يحاسب من ؟؟ …
اعتنقت نظرية ” Expired ” وأصبحت أطبقها علي كل شيئ ، فإذا سألني أحدهم عن رأيي في أي موضوع ، أجيبه ببساطة أن الموضوع منتهي الصلاحية ، وإذا طلبت إحدي بنات العائلة النصيحة في الخطيب المتقدم إليها ، أقول لها دعك منه فهو منتهي الصلاحية ..
والغريب أنني لم أجد أحداً يعترض علي تطبيقي لهذه النظرية ، بل وجدت الجميع يتفق معي في كل مرة علي أن الأمر المطروح فاقد بالفعل للصلاحية ..
حاولت الإستفادة من خبرتي القانونية في صياغة مادة في الدستور تتناول هذا الأمر ، ووضعت عشرات الصياغات حتي اهتديت علي صياغة أن ” جميع الموطنين متساوون أمام القانون بإستثناء أولئك الذين انتهت صلاحيتهم ” ، إلا أنني وجدت أن هذه الصياغة يشوبها العوار لأن القواعد القانونية يجب أن تكون عامة ومجردة ، وأن إستثناء فئة من المواطنين نتيجة لتشوه أو نقص أو حتي انعدامهم لا يعد صياغة دستورية متقنة ، وانشغلت بالأمر لعدة أيام ، ثم فكرت في فكرة الإنعدام ، فالمعدوم قانوناً غير موجود ، لا يتحمل بإلتزامات ولا يتمتع بحقوق ، فإذا كان المواطن الذي انتهت صلاحيته معدوم فلا محل له أساساً في أي نص قانوني …
وبعد حيرة طويلة أضطررت للجوء لصديقي الفيلسوف ، الذي اضطجع في سريره الفلسفي ثم هرش رأسه وقال :
أنت مخطئ مرة أخري في أساس البحث ، لأن الإستثناء يقتصر علي من لديه الصلاحية ، فالقاعدة كما سبق وشرحت لك قد انتهت صلاحيتها ، ولكنها ليست معدومة ، لأن كل شيئ له كيان مادي يعتبر موجوداً ، وهذا الوجود يؤكد ما ذكرته لك من نسبية أثر الصلاحية ، ولا أفهم لماذا تريد تقنين هذا الوجود ؟! ..
ذكرت له أنني بعد أن فهمت منه ما فهمت ، فكرت بجدية في ضرورة التوصل إلي نظام قانوني يجرم البشر الذين يواصلون الحياة رغم انتهاء صلاحيتهم ، فذلك هو أضعف الإيمان..
ضحك الصديق الفيلسوف حتي كاد أن يختنق ، وقال لي بين رذاذ شفتيه العبقري :
الضرب في الميت حرام .. أي عقاب تتصوره سيكون أشد علي كائن بشري أكثر من ممارسة لحياة بغير صلاحية ؟! .. أن الأصول القانونية تحظر توقيع العقوبة مرتين علي نفس الجريمة .. ثم أن القانون نفسه Expired …
تركته وتوجهت إلي الصيدلاني الذي تسبب في كل هذه الحيرة ، وطلبت منه نفس الدواء ، وفوجئت أنه يقدم لي دواءً لا تزال صلاحيته سارية ، فقلت له : أرجوك .. أريد دواءً منتهي الصلاحية .. Expired ….