وائل شفيق يكتب لـ«الحرية»: في حيرة بين الوجود والانعدام: كيف نستطيع إيجاد طريقنا؟

وائل شفيق يكتب لـ«الحرية»: في حيرة بين الوجود والانعدام: كيف نستطيع إيجاد طريقنا؟

في أعماق روح الشاعر عوض بدوي، خريج كلية الآداب قسم المسرح، تتراقص كلمات مسرحية هاملت الخالدة، لتُضفي على أغنيته “في دوامة نكون أو لا” جمالًا فريدًا، حيث تتشابك خيوط الدراما الشكسبيرية مع نبض قلبه، فتُزهر كلماته شعرًا حيًا، يُظهر تألق الدراسة العميقة في عقلية الشاعر وإبداعه الفني، وكأن دراسته للمسرح قد ألهمته لينبض قلمه بالحياة والإبداع.

في لوحة درامية خالدة، ترسم مسرحية هاملت لشكسبير قصة أميرٍ مثقل بالحزن والغضب، يسعى للانتقام من عمّه كلوديوس الذي ارتكب جريمة قتل والده واستولى على عرش الدنمارك. يختار هاملت قناع الجنون ليخفي نواياه، لكن الأحداث تنحدر به نحو سلسلة من المآسي المروعة. وفي النهاية، تسقط الأقنعة، وتزهق الأرواح، حيث يلقى هاملت وكلوديوس والملكة حتفهم بسبب السم الخبيث والسيف المميت.

في أعماق الأغنية، يتألق صراع داخلي عميق، يتجلى في كلمات الشاعر المقتبسة من مسرحية شكسبير: “في دوامة نكون أو لا”، حيث يتأرجح الشاعر بين شكوك الحياة وأحلامها، مثل طائر يبحث عن ريح لا تعرف التعب. هذا الصراع ينساب في الأبيات، حيث يبحث الشاعر عن معنى أعمق للحياة، ويهرب من تعقيداتها مثل نهر يبحث عن شاطئ السلام. وكما يقول الناقد صموئيل جونسون عن هاملت: “شخصية معقدة، يجد نفسه في صراع بين رغبته في الانتقام ومبادئه الأخلاقية”. هذا الصراع الداخلي يتردد في الأغنية، في كلمات مثل: “وتبعدنا السنين نبعد.. تقربنا الحياة نتعب.. ونتقابل بلا موعد.. نحاول في الزحام نهرب”، حيث يبحث الشاعر عن الخلاص من تعقيدات الحياة.

في أعماق المسرحية، تتراءى العدالة كسراب يلوح في الأفق، يغري بالاقتراب ويخيب الآمال. في الأغنية، تتردد كلمات “زمن كداب ودنيا هم فراقه” كصرخة مبحوحة في وجه الظلم، مثل صرخة هاملت التي تتردد في أعماقه، رافضًا الظلم وملاحقًا العدالة بلهفة الحالمين. وكما يقول الناقد إرنست جونز: “هاملت يسعى للانتقام لمقتل والده، ولكن هذا السعي يخلق سلسلة من الأحداث المأساوية التي تؤدي إلى تدمير العديد من الشخصيات”. وهكذا، تظل العدالة سرابًا يراوغ، والمأساة هي ثمن البحث عنها.

في الأغنية، تتشابك خيوط العلاقات الإنسانية المعقدة، حيث يرفض الشاعر التورط في دوامة من العلاقات المتعبة. الأبيات “نرفض حتى نبقى أصحاب، نرفض حتى نتلاقى” تعكس تعقيدات الروابط الإنسانية، وتأثير القيود غير المرئية على هذه العلاقات. وكما يقول الناقد هارولد بلوم عن هاملت: “يمثل هاملت الروح الأخلاقية التي تسعى للعدالة والحق، في حين يمثل كلوديوس القوة المظلمة التي تسعى للبقاء في السلطة بأي ثمن”. في الأغنية، يمكن رؤية هذا الصراع في رفض الشاعر للبقاء في علاقات معينة، وبحثه عن الحرية والتحرر من القيود.

الموت والفناء، ظلال داكنة تلوح في الأفق، مثل همس الليل الذي يهمس في آذاننا. في كلمات “تنادينا السكك نمشي.. تودينا الحياة لبعيد.. ولو نغرق ما نسألشي.. ولا نقبل نمد الإيد”، يغوص الشاعر في أعماق التفكير في الموت والفناء. هذه الأفكار تتردد في المسرحية، حيث يفكر هاملت في الموت والفناء، مثل من يبحث عن نجمة في سماء مظلمة. وكما يقول الناقد فرانسيس باركر: “هاملت يفكر كثيرًا في الموت والفناء، وهذا التفكير يزيد من تعقيدات المسرحية ويجعلها أكثر إثارة للتفكير”.

الحقيقة والوهم، خيطان متشابكان في نسيج المسرحية، يتجليان في الأغنية من خلال كلمات “بنهرب من حياة لحياة.. ونتسابق في مطرحنا”. هذه الكلمات تعكس صعوبة تمييز الحقيقة من الوهم، فنحن نركض في دوائر مفرغة. كما هو الحال في المسرحية، حيث يبحث هاملت عن الحقيقة حول مقتل والده، ولكنها تظل مخفية وراء ستائر الأوهام والادعاءات الكاذبة. وكما يقول الناقد نورثروب فراي: “هاملت يبحث عن الحقيقة، ولكن هذه الحقيقة دائمًا ما تكون مخفية وراء الأوهام والادعاءات الكاذبة”.

في أعماق الأغنية، تتجلى روح مسرحية هاملت، مثل نهر يتفرع من بحر شكسبير العميق، حاملاً معه فيضًا من الأفكار والمشاعر. أغنية “في دوامة نكون أو لا” لعوض بدوي هي معارضة شعرية رائعة، تتنفس أفكار المسرحية وموضوعاتها الرئيسية، مثل الصراع الداخلي الذي يمزق النفس، العدالة التي تبحث عن ضحاياها، الانتقام الذي يلتهم الروح، الموت والفناء الذي ينتظر الجميع، الحقيقة والوهم اللذان يتشابكان مثل خيوط الشبكة، والعلاقات الإنسانية التي تتشابك وتتعقد. هذه الأغنية هي تلخيص لأهم أفكار المسرحية، وتعبر عن رؤية الشاعر العميقة والمتأثرة بالمسرحية، مثل من يرسم لوحة فنية بألوان قلبه. من خلال هذه الأغنية، يظهر عوض بدوي قدرته على استلهام الأفكار من الأعمال الأدبية الكبيرة وتحويلها إلى عمل فني يعبر عن رؤيته الخاصة، مثل فنان يخلق تحفة فنية من قطع الفسيفساء. إنها لفتة فنية رائعة، تثبت أن الشاعر الذي يمتلك موهبة جبارة يمكنه أن يقدم معارضة شعرية لأفكار شكسبير، مثل أمير الشعراء أحمد شوقي الذي عارض كبار الشعراء وبرع في فن المعارضة الشعرية، تاركًا بصمته الخاصة في عالم الشعر.

فاروق الشرنوبي، الموسيقار المصري الكبير، أضاف بعدًا فنيًا وإنسانيًا رفيعًا لأغنية “في دوامة نكون أو لا”، مثل من يرسم لوحة فنية بألوان الروح، ويخلط نغمات القلب بنبضات الحياة. موسيقاه العميقة، جعلت الأغنية تتربع على عرش الأعمال الفنية الخالدة، مثل نجم يلمع في سماء الفن، ويضيء دروب القلوب. فاروق الشرنوبي، هذا العبقري الموسيقي، أضاف لمسة سحرية إلى الأغنية، مثل من يخلط ألوان الليل بالنجوم، ويجعل من الموسيقى لغةً تتحدث بها القلوب، فأصبحت الأغنية عملاً فنيًا خالدًا، يردد صداه في أعماق القلوب، ويبقى في الذاكرة مثل ذكرى جميلة لا تمحى.

إيمان البحر درويش، الفنان الذي وجد نفسه في مفترق طرق، حيث تتصارع رغبته في التعبير الفني مع قيوده الفكرية، مثل طائر يحاول الطيران بأجنحة مقيدة. عندما رفض غناء كلمة “زمن كداب” في الأغنية، بدعوى أنها حرام شرعًا، كان يبحث عن مواءمة فنه مع معتقداته الدينية. ومع ذلك، يبدو أن هذا الموقف يعكس عدم فهم عميق لمعاني عوض بدوي، الذي قصد من كلمة “زمن كداب” الإشارة إلى الظلم وعدم العدالة في الحياة.

يمكننا أن نرى أن هذا الفهم يتفق مع ما جاء في القرآن الكريم، حيث يقول الله تعالى: {فَأَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ رِیحࣰا صَرۡصَرࣰا فِیۤ أَیَّامࣲ نَّحِسَاتࣲ}، وهذا يظهر كيف أن الحياة قد تكون قاسية وظالمة أحيانًا، مما يعزز فكرة عوض بدوي عن الزمن الكاذب. إنها دعوة للتأمل في معاني الحياة، والبحث عن الحقيقة في أعماقها.

يمكننا أن نجد تشابهًا بين إيمان البحر درويش وشخصية هاملت، حيث يجد كلاهما نفسه في صراع داخلي بين رغباته ومبادئه، مثل من يبحث عن توازن بين النار والماء، أو من يحاول أن يجد طريقًا وسط الغيوم. هاملت يجد نفسه في صراع بين رغبته في الانتقام لمقتل والده ومبادئه الأخلاقية، بينما إيمان البحر درويش يجد نفسه في صراع بين رغبته في التعبير الفني وقيوده الفكرية.

في النهاية، يمكننا أن نرى كيف أثرت هذه القيود على مسيرته الفنية، حيث فرط في عرش الغناء الذي اعتلاه منفردًا في الثمانينات، مثل من يخلع تاجًا كان يزين رأسه، ليرتدي عمامة درويش. لقد اختار أن يقيّد نفسه بتفسيرات ضيقة، بدلاً من أن يبحث عن معاني أعمق في الحياة، مثل من يختار أن يبقى في كهف مظلم بدلاً من أن يستكشف عوالم جديدة. هكذا، خسر إيمان البحر درويش فرصة أن يظل ملكًا متوجًا للغناء، وخسر فنه في بحر من القيود الفكرية، دون أن يستطيع أن يجد الشاطئ الآمن الذي كان يبحث عنه.